لا مثيل
(إلى روح المرحومة مثيل كيّال صفيّة، أمِّ الأمينِ، الّتي وافتْها المنيّةُ يومَ الجمعةِ، 17/5/2024، والّتي أعطت الجيرةَ حُسنَها وطيبتَها ومحبّتَها وقلبَها، والّتي أعطت الأمومةَ حضنَها ودفأَها وحنانَها وروحَها)
ما زالت اللّقمةُ الّتي غمّسناها من جرنِ "الكُبّة"، وأنت تَدعينَ لنا بالصّحّةِ والهناءِ في أفواهِنا، رغمَ أنّنا بلعناها مِنْ زمانٍ بعيدٍ يأبى إلّا أنْ يكونَ قريبًا. ما زالَ كعكُ العيدِ يحلّي ريقَنا، وروحَنا، وذاكرتَنا ويُزهرُ على ثغورِنا ابتسامةً عسليّةً تزدادُ حلاوةً مع مرورِ الأيّامِ. ما زال كلامُكِ النّاصحُ يملأُ الأسماعَ، ويسكنُ القلبَ، ويجري في عروقِنا دورتَهُ الكُبرى ودورتَهُ الصُّغرى، يدخلُ منَ الآذانِ ويحلو لَهُ المُقامُ، فلا يغادرُ.
كانَ الحيُّ مجموعةً مِنَ الأمّهاتِ، وعُصبةً مِنَ الرّجالِ، وفريقًا مِنَ الأولادِ، كانَ الحيُّ وَرشةً يعملُ بِها الجميع، الصّغيرُ قبلَ الكبيرِ، وكانَ الحيُّ وجبةً يتقاسمُها أبناؤُهُ لقمةً لقمةً بفرحٍ ومحبّةٍ ورضًا، كانَ الحيُّ عيدًا بهيجًا اسمُهُ "عيدُ الحارةِ" يتكرّرُ في كلِّ البيوتِ كلَّ عامٍ، كانَ الحيُّ لعبةً الفريقِ اليوميّةِ، نتدرّبُ فيهِ على الجيرةِ الطّيّبةِ، والعائلةِ الجامعةِ، والأعمالِ النّافعةِ، والأُلفةِ الوادعةِ. كانتْ كلُّ أمِّ هيَ الحيُّ، وكانَ كلُّ الحيِّ أُمًّا، وكانتْ كلُّ أُمٍّ مثيلَ صفيّة، أمَّ الأمينِ.
كيفَ لا نبكي يا معنى الجيرةِ، يا روحَ الأمومةِ، يا قلبَ الحيِّ، يا خيرَ "البيادرِ"، يا ضحكةَ الفريقِ، يا بيتَ "الحارةِ" المفتوحَ وما زلنا نبحثُ عَنْ مفتاحِهِ، بحثْنا عنْهُ في كلِّ الزّوايا، وتحتَ كلِّ الأحجارِ، وبينَ أوراقِ كلِّ الأشجارِ، وفي كلِّ جهاتِ "البيادرِ"، فلم نجدْهُ؛ وعندَما بكيْنا على فراقِكِ، في هدوءِ اللّيلِ والقلبِ، تراءى لنا المفتاحُ طَيْفًا يُوصينا بالوفاءِ، والمحبّةِ، والعطاءِ، كانَ الطّيفُ مُتوسطَ الحجمِ مثلَكَ، عيناهُ سَوداوانِ تُشبِهُكِ، وشَعرُهُ شديدُ السّوادِ، أملسُ، كشعرِكِ، جسدُهُ شفّافٌ، يظهرُ قلبُهُ داخلَهُ أبيضَ ناصعًا كقلبِكِ.
كانَ بينَ دارِكم ودارِنا سلسلةٌ مِنَ الحجارةِ، لم يكن لها هدفٌ سوى منعِ ترابِ أرضِكم العاليةِ من الانهيارِ على أرضِنا المنخفضةِ؛ دارانِ وبيتٌ واحدٌ، عائلتانِ وقلبٌ واحدٌ؛ حاكورتانِ وعدّةُ أشجارٍ وفمٌ واحدٌ، رُبَّ عَشْرةِ إخوةٍ لم تلدْهم أمُّي أميرةُ، والدتانِ وأمٌّ واحدةٌ ليسَ لها مثيلٌ، والدانِ أحمدانِ وأبٌ واحدٌ، وجَدّانِ عَشرَةٌ أحفادُهٌ، مُصطفانا وريّانا.
ما أصغرَ العائلةَ، وما أكثرَ أفرادَها، تجمعُ نّزارَ وأمينَ، وسلمى وآمالَ، مأمونَ وإيادَ، ومعتصمَ وضرارَ، وخولةَ وريّا، يتنفّسونَ من صدرٍ واحدٍ، وينبضُ قلبُهم بِحُبٍّ واحدٍ، وتُبقيهم روحٌ واحدةٌ على قيدِ القرابةِ "فمودّةُ الآباءِ قرابةُ الأبناءِ"، يا ابنةَ عليِّ إسماعيل كيّال صفيّة.
شَرّدوكِ عن ملاعبِ طفولتِكِ في البروةِ، فبكَيْتِ بكاءً مُرًّا على أجملِ الذّكرياتِ الّتي أطلقوا عليها النّارَ مِنْ كلِّ الجهاتِ، فتطايرَتْ دماؤُها على جدرانِ الذّاكرةِ، لكنّهم لم يستطيعوا قتلَها، ظلّتْ حيّةً رغمَ تجاوزِ العقدِ الثّامنِ، ظلّتْ في كاملِ شخصيّتِها الطّفوليّةِ المُشوّهةِ، تأبى أنْ تكبرَ، وترفضَ أنْ تموتَ. تقاسمتِ حزنَكِ يا أختَ الحَسَنِ والحُسَيْنِ معَ بنتِ البروةِ أميرة إدلبي، فالبروةُ مَسقطُ رأسَيْكُما وغصَّتَيْكُما ووجعَيْكُما، أيّتُها الأصيلتانِ الوفيَّتانِ المنكوبتانِ.
لقد أورثتِنا كنزًا يعجزُ العقلُ عَنْ عَدِّهِ، سيرةً مُشبعةً بالخيرِ، وجيرةً ريّانةً بالطّيبةِ، محبّةً متدفّقةً كماءِ النّهرِ، ووفاءً مُتأصّلًا في النّفسِ يختمرُ بسنواتِ العمرِ المُهروِلةِ إلى حتفِها، وأملًا مُزدهرًا باحتضانِ ثرى البروة يملأُ صدرَ الأجيالِ مهما تعاقبتْ؛ أورثتِنا أُلفةَ العائلةِ، وحنانَ الأهلِ، وعطاءَ الكرامِ؛ أورثتِنا عملًا نافعًا، وعائلةً صالحةً، أورتِنا ما يجمعُنا دائمًا، أورثتِنا ما لا مثيلَ له، فكيفُ نَصحو على لا مثيل؟!
إياد الحاج
أَحدُ أبنائِكِ المُحبّينَ الكثيرينَ
20/5/2024