مع دقات الساعة السابعة مساءً على ارض الحوارنة وفي قمة البهاء والرقي الثقافي وفي أجواء تعجُ بالعبق الدرويشي العميق إحتضنت كفر قرع مهرجان سيد الكلمة السنوي "اثر الفراشة لا يُرى...أثر الفراشة لا يزول"، إذ غصت قاعة الحوارنة بمئات رواد الثقافة من عشاق محمود درويش وموروثه الأدبي الشعري الفلسطيني، وذلك تحت رعاية مجلس كفر قرع المحلي، تنظيم اشرف ومبادرة قسم الثقافة والتربية اللا منهجية في مجلس كفر قرع المحلي بإدارة السيدة مها زحالقة مصالحة.
انطلق المهرجان من خلال معرض زاخر ومميز لكل مؤلفات محمود درويش والتي انتظرت رواد المهرجان في مدخل القاعة لتضفي جواً درويشياً مميزاً قبل انطلاقة المهرجان، كما واستمع الحضور إلى قصائد بصوت الحاضر الغائب في وقت الانتظار من خلال فيلم قصير على الشاشة.
افتتحت المهرجان وتولت العرافة الثقافية السيدة مها زحالقة مصالحة، مديرة قسم الثقافة والتربية اللا منهجية والتي رحبت بالسادة والسيدات الحضور مع حفظ الألقاب والمقامات والاحترامات جميعاً، وحملت للجماهير اعتذار المحامي نزيه سليمان مصاروة رئيس المجلس المحلي الذيتعذر عليه الحضور نظراً لعرس نجل شقيقته حاملةً لهم تحيته العميقة للضيوف الكرام ولآل درويش ولسيد الكلمة.
كما وحيت عريفة المهرجان الأديب الأستاذ زكي درويش وعقيلته المحترمين، الدكتور عضو الكنيست جمال زحالقة، الآنسة جنى زكي درويش والدكتور نجوان كيال والأسرة الدرويشية الكريمة المشاركة، الفنان عماد جبارين، المايسترو محمد موسى خلف والعازفين السادة عطّاف بشارات، عنان عواد ومحمد جبالي والنائب محمد مرة.
وقد جاء في مستهل تحية عرافة المهرجان وأمسية الوفاء لسيد الأبجدية :"ألف تحية لرواد المهرجان الثقافي الوطني ضمن سلسلة برامج آذار الثقافة، الأرض والوطن، تحت عنوان "اثر الفراشة لا يرى...اثر الفراشة لا يزول"، ألف تحية لكل من قدم ليزرع معنا زهرة جديدة في حديقة توطيد العلاقة بين الفلسطيني، أرضه وذاكرته وتحديداً في ارض البروة، ساردةً أسماء البلدان التي وصل منها الحضور إلى ارض الحوارنة لمهرجان شهر الثقافة وإحياء ميلاد الشاعر المصادف الثالث عشر من آذار".
وفي لحظة تطرق إلى فقرات المهرجان الغنية درويشياً ووطنياً فقد أكدت عريفة المهرجان:" كثيرة هي الفقرات والإبداعات الفنية الثقافية التي كانت تود لو تكون نجمة في سماء مهرجان الوفاء لسيد الأبجدية وعاشق فلسطين، هذا العام نعتز بوجود ضيف الشرف في هذا المهرجان الأستاذ الأديب زكي درويش بيننا اعتزاز ما بعده اعتزاز، ونثمن وجود الأسرة الكريمة بيننا غاليا وعاليا ، نشكر لكم هذا الحضور الذي أضفى على مهرجاننا السنوي بهاءً وألقاً، كما وسوف نعيش أجمل كونسيرت موسيقي "حنين لدرويش" مع المايسترو محمد موسى خلف وفرقة العازفين المميزين المرافقين، ومعنا هذا المساء الفنان الفلسطيني المتميز عماد جبارين وأروع أداء وإبداع مسرحي لحالات الحصار في بيروت والتي عاشها شاعرنا محمود درويش عام 82 من خلال المسرحيدية "ذاكرة للنسيان" وهي احد أروع إبداعات الشاعر، ومن إخراج الفنان موسى زحالقة، كما وسنشاهد قصائد مختارة للحاضر الغائب درويش لكي يكون معنا في أمسية الوفاء".
وفي لحظة مرافعة أدبية شعرية أمام سيد الكلمة في محاولة جادة لضحد ادعاء احتمالية النسيان من الذاكرة والوجدان الفلسطيني،وفي مواجهة عتاب وتفنيد لادعاء درويشي يلبس زي القصيدة ويحمل عنوان "تنسى كأنك لم تكن"، من ديوانه لا تعتذر عما فعلت، فقد حاورته عريفة الحفل من خلال ربط مميز بين أسماء قصائده ودواوينه صانعة بها مرافعة شعرية تحاكي الروح والقلب لتقنعه بسحب ادعائه بالقول: "نعترف..لا نريد لهذا المهرجان القصيدة أن ينتهي، ونطالب سيد الأبجدية بسحب شعوره العابر الذي يلبس زي القصيدة ويحمل عنوان "تنسى كأنك لم تكن"،إذ يقول الشاعر...تنسى كأنك لك تكن..تنسى كمصرع طائر..ككنيسة مهجورة..كحب عابر.. وكوردةٍ في الليل .... تُنْسَى"، مخاطبة إياه:" نعترض..لا ولن تنسى..أيها الإنسان القابض على الكلمة بجمر الوفاء للقضية الفلسطينية لتسمو بها إلى مصاف القضايا الإنسانية الكونية الكبرى... تاركاً وراءك وأمامنا موروثاً وطنياً زاخراً، برهنت لنا درويشنا أن القصيدة أقوى من البندقية، لا يا عاشق فلسطين وفارسها الخالد في ذاكرة شعب يحلم ويربي الأمل على ثنايا قصائدك، لا ولم ولن تنسى ..ليتك تعلم كم أنت مستقر في عقل الدهر وراسخ في قلوبنا! وفاءً منا لوفائك يا شاعر القضية... وفاء نرده بالوفاء... خالد كالأيقونة بأشعارك وموروثك الأدبي الشعري الخالد... لم نكن بحاجة لمهرجان ليذكرنا بسيد الكلمة فهو حاضر في كل رؤانا وأفكار مهرجاناتنا الثقافية...دوماً!!
وعلى دربه الصادق نسير".
واستطردت في المرافعة:"محمود درويش..أيها الفارس العربي الفلسطيني...ربما لا شيء يعجبك، فتعبت من السفر وسافرت السفر الأبدي...كزهر اللوز أو ابعد، ربما لان أسباب الوفاة كثيرة من بينها وجع الحياة، ربما قلت للغياب نقصتني وأنا حضرت لأكملك،ربما لأنك لا تعرف الشخص الغريب ولا مآثره، ورأيتُ جِنازةً فمشيت خلف النعش... وربما قد تكون جنازة الشخص الغريب جنازتك يا ابن الحورية، لكن أمرا ما إلهيا اجلها لأسباب عديدة من بينها خطأ كبير في القصيدة، وتعدل الخطأ في التاسع من آب عام 2008 وليته ما تعدل، لأننا ولأنك تحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً.
وفي ميثاق المرافعة تماهت عريفة المهرجان بتفنيد الادعاء قائلة:" تبكيك غزلان اللغة العربية يا سيد الأبجدية.. في زمن يغتصب فيه الطغاة أقدس الأغنيات والأمنيات!في زمن تسقط فيه الذراع ولا نفلح في التقاطها لنضرب بها العدو.. ربما بتنا لا نحاول! نفتقدك! لماذا تركت الحصان وحيداً سيد الأبجدية؟ كي يؤنس البيت؟؟..لا عليك.. لا تعتذر عما فعلت، ففي حضرة غيابك لا زلنا في حالة حصار ولا زلنا نُدون يوميات الحزن العادي، ونعيش كل يوم ذاكرة للنسيان لا تصلحُ، كأوراق الزيتون تتساقط أرواحنا، تبكيك يوميات الجرح الفلسطيني درويشنا.. وتقتلنا حيرة العائد الذي لم يعد لا لحيفا ولا ليافا، بقينا عصافير بلا أجنحة أيها الحاضر الغائب الذي لا يُرى ومن الروح والذاكرة لا يزول، كأثر الفراشة أنت.... لا ترى ولا تزول.. لأنك تفكر بغيرك ممن فقدوا حقهم في الكلام ومن يسكنون الخيام،كزهر اللوز أو ابعد يا وطني، لأنك أبدعت في الكتابة على ضوء بندقية وكنت جنديا يحلم بالزنابق البيضاء لتصنع آخر الليل ليكون نهاراً...لأنك ولأنك.. لأن الشعر وجد فيك أعذب قيثاراته.. لا نريد لهذا المساء الذي يحمل اسمك أن ينتهي يا سيد الكلمة كما لم ترد لآخر قصائدك أن تنتهي !لأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، كانت تسمى فلسطين وصارت تسمى فلسطين، آمل أن نكون قد زرعنا وردة حب ووفاء يانعة في حديقة البروة التي تسكن فينا كما الكرمل وحيفا ويافا فيك، يا شاعر القضية الباقي والخالد أيقونة في روح عقل الدهر، تنظر من هناك لترانا، من الغربة ومن الآخرة تنظر لترانا.. فلا نرى إلا أنت على ارض فيها ومنها حبوب سنبلة تموت وتجف تملأ الوادي سنابل ليرد الصدى يا ملك الصدى".
ثم دعت جمهور الحضور للوقوف إجلالاً وإكباراً لنشيد موطني وهي اللازمة الثقافية التي ترافق الأعمال الثقافية الوطنية في كفر قرع لتتلاحم الأصوات ويرد الصدى ليصل رام الله وحديقة البروة هناك.
وبعد ذلك فقد قدمت عريفة المهرجان الأديب زكي درويش للجماهير التي حيته بحرارة كبيرة مشيرةً إلى اعتزاز كفر قرع بهذا السبق الثقافي الإنساني التاريخي والتميز الأدبي الذي منحنا إياه الأستاذ الكاتب الأديب زكي درويش، شقيق سيد الكلمة قائلة:" يقول الأديب زكي درويش في ذكرى ميلاد سيد الكلمة الثاني والسبعين :"قبل اثنين وسبعين عاماً خرج نجم من مجرته واستوطن ارض المعراج والصعود"،روعة التعبير اختزلت كل الكلام، وسوف نستمع إلى شقيق الأديب محمود درويش في مداخلة لها الألق والرقي بعنوان "سيد الكلمة" بعد قليل!، وفي هذا الموقف لا يسعني إلا أن اقتبس ما جاء في مقالة نشرها عنك الكاتب احمد دحبور في الحياة الجديدة :"إذا كان في مدعى الأقوال الشعبية، أن المعجزة لا تتكرر مرتين في الأسرة الواحدة، فان ظاهرة الشاعر محمود درويش الأشبه بالمعجزة، قد ظلمت حظوظ شقيقه زكي في الانتشار اللائق بموهبته.. وزكي واحد من خمسة أخوة لهم ثلاث أخوات، وهو مولود طبعا في البروة من قضاء عكا، عروس الجليل الشمالي الغربي، عام 1944، وقد تخرج من جامعة حيفا، حيث درس الأدب العربي والتربية.. أما إنتاجه الأدبي فقد انطلق رسميا عام 1971، عندما اصدر مجموعته القصصية الأولى «شتاء الغربة»، ولم يكتف بذلك، بل اصدر في ذلك العام أيضا قصته «القميص والطابور»، ثم تدفقت أعماله في السنوات اللاحقة، فكانت مجموعته القصصية «الجسر والطوفان» تلاها بمجموعته «الرجل الذي قتل العالم»، ثم «الكلاب»، وله رواية لافتة بعنوان «احمد ومحمود والآخرون»، إضافة إلى مسرحيتيه «الموت الأكبر".
ومن ثم اعتلى الأديب زكي درويش المسرح مشيداً بالمهرجان وألقى كلمة رافقتها الجماهير بالصفيق الحار والحماس والحب الكبير للجوانب الإنسانية لحياة محمود الشاعر الإنسان، ومن أجمل ما قال في المداخلة التي حملت عنوان "سيد الكلمة" والتي نورد بعض المقتطفات من أجزائها الأربعة:"من الصعب الاحتفال والاحتفاء بآذار كل عام دون المرور بآب الحزين، من المستحيل الخروج من نفسك لتحكي عن نفسك، ومن غير الممكن إيجاد حيز بين الذاتي والموضوعي، وبين الغياب والحضور ولكنني بقدر ما يسمح لي المجاز والإيجاز سأحاول..لما عرفته كان بروض خيلاً على صفحات المعلقات، ويضع من الحروف كائنات، تنتصب الألف خنجراً، والضاد منجلاً والياء طيراً، يستخرج من التراب التبر، ويرش العطر في الزهر، ويزف ألليلك إلى القرنفل، ولأمه يشعل الجمرة!يحلم أن يعصر حلماً يمطر أحلاماً، تشعل ليل النازحين، وتطفئ نجوم الغزاة الطغاة، ويترك في كل قلب قنديلاً، وينسى قلبه ..ولأمه يورث الحسرة، يسرج خيلاً، تطلق صهيلها، ريحاً وروحاً، ويترك حصانه يذرع الكون وحيداً، يطارد فارساً قبل موعده ترجل...يا سيد الكلمة..في البدء كان الكلمة، فسبحان الذي وضع السر، كل السر في الكلمة، من قال للأشياء كوني فكانت بالكلمة، خطاب عرش السماء إلى الأرض كلمة، أول الحب وأول الحرب وأول الإيمان والطريق إلى النعيم أو الجحيم كلمة... أمضيت عمرك في الطريق، بحثاً عن طريق، تسلمك المرافئ للمطارات، ومحطات القطار، تسلمك الهداية للضلال والضلال إلى الهداية، والطريق هو الطريق، يطول، يقصر، يعلو، يهبط، يتسع يضيق على إيقاع خطو النازحين والطريق هو الطريق! أبوابنا مفتوحة ..شرفاتنا في كل مكان تأتي منه الريح... إن موالاً يصعد من أعالي الجليل، يرقص غزلان النقب وزهرة ليمون من يافا ترش الكون عطراً، وبلادنا كبيرة كبيرة، بوسع أحلام ملايين النازحين، وبلادنا عالية عالية عالية افقها شرفات السماء..". تجدر الإشارة إلى أن الكلمة الإنسانية المؤثرة الصادقة استحوذت على اهتمام وعاطفة الحضور في المهرجان الذي تفاعل معها حباً وحماساً.
ثم شكرت عريفة المهرجان السيدة زحالقة مصالحة الأستاذ زكي درويش على هذه الكلمة التاريخية بالقول: "تلك الحورية... جادت على فلسطين بزكي ومحمود ....صنعت برحمها القلم الفلسطيني... الأديب زكي درويش...انحناءة تقدير وركوع لكلمتكم "سيد الكلمة"..سبق ثقافي تتوجه كفرقرع جوهرة جبين انجازاتنا الثقافية".
ودعت إلى المسرح الدكتور جمال زحالقة والمربي محمد مرة نائب رئيس المجلس المحلي كفر قرع ليكرم الثلاثة الأديب زكي درويش من خلال لوحة فنية من بواكير إبداع الفنان محمد كلش الذي تواجد بين الجمهور والذي أبدع من خلال لوحة "اثر الفرشة لا يرى..اثر الفرشة لا يزول" والتي تم تقديمها من قبل الدكتور زحالقة والسيدة زحالقة مصالحة والنائب مرة نيابة عن كفر قرع لروح الحاضر الغائب محمود درويش وللأستاذ زكي درويش تعبيراً عن تقدير وإدراك كفر قرع للدور التاريخي العظيم الذي يشغله درويش في الذاكرة الفلسطينية.
وقد تحدث الدكتور جمال زحالقة للجماهير حول الدور العالمي العربي التاريخي الذي أحدثه سيد الكلمة محمود درويش والإسهام التاريخي للقضية الفلسطينية، مؤكداً بأن فلسطين سوف تنسانا جميعاً وتتذكر محمود درويش...من خلال خطاب ثقافي حماسي يرفع درويش إلى مصاف صُناع التاريخ.
ومن ثم انتقلت الجماهير لتشاهد فيلما قصيراً لقصائد بصوت محمود درويش ليكتمل الغياب حضوراً من خلال الصوت الآسر والحضور الأكبر... ومن ثم دعت عريفة الحفل المايسترو محمد موسى خلف والعازفين عطاف بشارات وعنان عواد إيقاعات والعازف محمد جبالي جيتار باص لتعيش الجماهير أجمل اللحظات مع كونسيرت "حنين لدرويش" والمايسترو المبدع محمد موسى خلف، "حنين لدرويش" والتي ألفت خصيصاً لذكرى ميلاد درويش ولمهرجان اثر الفراشة لا يرى اثر الفراشة لا يزول، من بين الألحان احن إلى خبز أمي والي أهدتها عريفة المهرجان لكل السيدات والأمهات على سيدة الأرض فلسطين بمناسبة يوم الأم، وموطني لإبراهيم طوقان ومحمد فليفل، إذ افلح العازفون باختزال حب الوطن بالشعر واللحن! وقد تفاعلت الجماهير بكل الحب مع هذه الفقرة المميزة والطلائعية.
ومن ثم كان مسك الختام مع المسرحيدية الرائعة "ذاكرة للنسيان" تمثيل الفنان الفلسطيني المبدع عماد جبارين والذي عاشت معه الجماهير حالة حصار بيروتية على مسرح الحوارنة لتتحرر الإرادات والأرواح وتتثبت الانتماءات من خلال الإبداعات المسرحية لذاكرة للنسيان...الذي كتبه درويش عام 1982 بلغة متوترة وبأسلوب يجمع بين السردي والشعري والقصصي والإخباري.
وفي حديث لمراسلنا مع عريفة المهرجان فقد أكدت زحالقة مصالحة عن رضاها الكبير جدا لنجاح المهرجان من حيث تنوع الفقرات الراقية ثقافياً والحضور النوعي الكبير العاشق لدرويش الذي صنع أمسية مميزة وفاءً لسيد الكلمة!
تجدر الإشارة إلى انه تم تنظيم معرض للكتاب العربي بتنظيم وإشراف دار العلم والمعرفة أبناء المرحوم موفق خوري، وقد لاقى المعرض استحسان الجماهير والإقبال الثقافي المتزايد من مهرجان إلى آخر نحو مجتمع يعزف عن العزوف عن القراءة والمطالعة وتم تنظيم زاوية كبيرة لمؤلفات سيد الكلمة.