"الأفكار لا تموت" بقلم: سهير نقولا (ناصر) شحادة
20/01/2025 - 11:39:29 pm

كان جمال على وشك الانتهاء من وضع اللّمسات الأخيرة للمعرض الّذي سيَفتتح أبوابه بعد قليل في ساعات المساء. لماذا آثرَ المساء؟!

في المساء تحتضر الضّوضاء ويهدأُ السّكون وتلملم النّفوس ما تبقّى من ذاتها، مدركة في قرارة نفسها بأنّ جزءًا من عمرها قد أفلت منها هذا اليوم غير أنّ النّهار لا يزال يلوّح بذيلِهِ معلنًا أنّ الحياة لهذا اليوم لم تنته بعد...

وجمال الّذي قضى وقته الطّويل في رسم لوحاته استعدادًا لافتتاح المعرض، كان يؤمن في قرارة نفسه بأنّ تلك اللّوحات ستوقظ الغارقين في سبات الحياة وسَتَنْكُز الغافلين عنها آه...كم كَثُروا النّيامُ!

كيف لا يوقظ النّيام؟ هو يرى في ذلك المعرض رسائل إنسانيّة يتوق إلى معرفتها الكثيرون.

كان الزّوّار يجوبون المعرض طولًا وعرضًا في أرجائه الرّحب، يبحثون عن لوحة تشبه حالهم، تناجي أفكارهم وأحاسيسهم بألوانها ورموزها. اختار الفنّان أن يجول بينهم محاولًا اصطياد نظرات تومئ بالانفعال أو التّأثّر؛ فوجد عيونًا شاخصة وغيرها شاردة وأخرى تائهة...

"هذه اللّوحة تذكّرني بأبي، فقد كان صليب الرّأي، متشدّدًا في مواقفه..." قالت إحدى الزّائرات. أمّا جمال فقد بقي صامتًا رزينا يصغي إلى ما تقوله تلك الفتاة وعيناه الثّاقبتان أخذتا تبحثان عن تلك الصّلابة والشّدّة في لوحته؛ فاللّوحة تحتلّها شخصيّة فتاة فقيرة تنضو عن أخيها الصّغير المريض ثيابه الرّثّة وبجوارهما سرير حديديّ بارد ومنضدة خشبيّة عتيقة...الألوان ترابيّة والوجوه شاحبة مسكينة...

" كيف جاءت بإيحاء كهذا؟!" حدّث جمال نفسه، لكنه عزم على استئناف مسيرته وتجواله بين الحاضرين، مُحدّثًا الزّائرين عن لوحاته؛ فعبّروا عن إعجابهم بها مثمّنين أعماله الفنّيّة الرّاقية. وفي لحظة ما أخذ رجل يخطو نحوه بخطوات وئيدة مشيرًا بإصبعه تجاه لوحة قريبة منه:

" في الحقيقة، لا أفهم لوحتك هذه...ما سبب رسمك لذلك العصفور الصّغير يقف عند كتف الفتاة الجميلة...ربّما كان عليك أن ترسم بومة بدلًا منها..." قال هذا وصوته المُقَهقِه دوّى في كلّ ركن وزاوية.

ظلّت تلك القهقهة تطنّ وترنّ في رأسه دون توقّف، سأله جمال ونظراته أصابها النّفور: " ما الّذي تريد قوله...؟!"

"أنا أعرف وجه تلك الفتاة تمامًا، فقد ارتبطتُ معه بذكرى لا تمّحى...وأنا أتذكّر تلك العينين الذّابلتين والحادّتين في آن واحد..." أجاب الرّجل، ثمّ أردف قائلًا: " كنت أسمع شذرات أحاديث يدور فيها الكلام حولها...الفتاة عبارة عن كيس يفيض شرًّا وذنوبًا...على كلّ حالٍ ...كلّ ذلك ما عاد يهمّني الآن..."

لم يدرك جمال ما قاله ذلك الرّجل لكنه شعر كأنّ سَدًّا عظيمًا نزل فجأة من السّماء، وضبابًا كثيفًا غامضًا استحوذ على عقل ذلك الرّجل، وفي غضون ثوان، أحسَّ كأنّ وجه الفتاة تحوّل إلى وجه مفلطح عجيب... وتبدّل العصفور إلى بومةٍ غاضبةٍ تترك لذلك الرّجل الجاهل خيار الموت أو الفرار.

لم يمرّ وقت حتى تركه بعد أن استردّ وعيه وهدأت نظراته، وهو يردّد في نفسه: غريبة هي النّفوس ومريضة هي أفكارها...

"ليس من اللّائق أن نموت، أليس كذلك؟ التفت جمال إلى الخلف ليعرف مصدر هذا الصّوت. كم كانت المفاجأة عظيمة حين وجد أمامه طفلة صغيرة، هزيلة الجسم، شاردة العينين، لا تكفّ عن التّحديق بتلك اللّوحة.

لم تكن تلك العبارة قادرة على جعل جمال يردّ، بل جعلته يقف مشدوهًا محتارًا... أَمّا هي فقد كانت تنتظر منه جوابًا في منتهى الرّفق والوداعة.

وحين طال الصّمت بينهما، اقتربت منه أكثر، ومدّت إليهِ يدها الصّغيرة لتعانق يده ومالت برأسها على راحة كفّهِ كأنّها تطمئنّه، من ثمّ أطلقت سيقانها الرّيح واختفت بين الجموع والزّائرين.

ظلّ جمال متسمّرًا في مكانه بعد ذلك الموقف الغريب، يحاول سبر أغوار لوحته الّتي أبدع في رسمها وعرف مكنوناتها: " أليس من اللّائق ألّا نموت؟!! راح يردد السّؤال وعيناه في رحلة بحث عن الحقيقة...

لم تدم تلك الحالة طويلًا، لا سيّما بعد أن لمح سيّدة في مقتبل العمر تجوب برزانة ورقيّ، تجول بنظرها هنا وهناك، تتفحّص اللّوحات والرّسومات...

هذه المرّة عزم في قرارة نفسه أن يبقى هادئًا منصتًا لأحاسيسه وأفكاره، فاختار أن يتّخذ موضع الانتظار والتّرقب لينعم هو وغيره في راحة وطمأنينة. أصاب جمال الذّهول حين رأى السّيّدة الأنيقة تصبّ جلّ اهتمامها في مسح الغبار العالق عند أطراف اللّوحات وزوايا المكان، فقد كانت منهمكة في مسح الغبار بطرف إصبعها الّذي أصابه الاشمئزاز... لم يستطع جمال كتمان غيظه، فانفجر ساخرًا:

" في الحقيقة...من اللّائق أن نموت...نموت نحن ما دامت تلك الأفكار لا تموت..."



المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
Copyright © almadar.co.il 2010-2025 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق