"القَصر"
بِقلم: سُهير نقولا (ناصر) شحادة
كُنّا نعرفه رجُلًا ذا سُلطة وَمكانةٍ في تلك المنطقة الواسعة من البلاد.
وقد اِعتَدْنا رؤية هيئته تتصدَّر عناوين اللّافتات السّياسيّة الّتي تُنشَرُ مرارًا وتكرارًا، فتنعقد المؤتمرات الطّارئة، لتخرج في نهاية المطاف بقرارات تُصاب، بعد حينٍ بِعُقم مباغت.
بالرّغم من الحركات السّياسيّة الّتي تترأسها عقول متنوّرة مثقفة، لكنّه كان يتمتع بقدرة فائقة على اجتذاب السّامعين والمتحدّثين بِحِنكة وَتبصُّر، فنَجدُه يحيل المسألة إلى غيرها، كَنهرٍ مُتمرّد غامض غيَّر اتّجاهه ليصبَّ في مجرى آخر...مجرى يروق له.
شخصيّتهُ متفرّدة مُهيمنة، بعيدة كلّ البعد عن كثيرين قد تصادفهم في مسارات الحياة، الّذين خرجوا قَسرًا عن شريط الحياة الكريمة.
كان يعشق قصرَهُ كَعِشْقِهِ لاسْمِهِ؛ كيف لا واسمُهُ يرفض كلّ معاني الزّوال والفَناء.
"أنا خالدٌ...وسأبقى خالدًا..." كانَ يردّد تلك العبارة على مسمع كلّ من يحيط به، ثم تنطلقُ فجأةً قهقهةٌ تُجلجل وتدوّي في أرجاء القصر.
أَمّا قصرُهُ فَكان قائمًا عند رابيةٍ تطلُّ على مشارف المدينة؛ يكلّلهُ سياجٌ عشبيٌّ وأشجار سرو تلامس رؤوسها زُرقة السّماء. وقد ذاع صيتُهُ كعاشق للتّحف الصّمّاء واللّوحات المُكحّلة بالألوان الزّيتيّة، فكثيرًا ما كان يَتغنّى بِفخامة قصره، رسوماته المطليّة بالذّهب وبلاطه الرّخاميّ.
في يوم شديد البرودة، اندلعت الحرب على حين غرّة، وأخذت براثنها السّوداء تنغرز في المدن الكبرى، حيث بلغت ضراوة الحرب أقصاها ممّا جعل المواطنين أمام خيارٍ واحدٍ وهو النّزوح بعيدًا بحثًا عن مكان يَقيهم ممّا هو آتٍ.
أمّا خالدُ فقد أخرجته الحرب القاسية عن طورهِ، فانصرف يفكّر في مصيرهِ، واشتدّت سَحنته حتّى بلغ من الشّدة أنّه راح يسمع صريف أسنانه، وأَحسّ بانقباض قلبه انقباضًا يبلغ درجة عذاب لا يُحتَمل. شعر للحظةٍ كما لو يد خفيّة تحاول أن تقطع الصّلة بينه وبين حياته في ذلك القصر، بينه وبين عالمه المُنير.
بدت له الأفكار تَستهويهِ، تطلب منه الهرب واللّوذ بالفرار كسائر النّاس، فهو يعلم في قرارة نفسه أنّ الهوّة باتت سحيقة لا نهاية لها في هذه الظّروف، لكنّه عاند تلك الأفكار المُلحّة وخنع لفكرة البقاء في القصّر، وّآثرَ المكوث بين لوحاته وجدران قصره المكسوّة بالسّتائر المخمليّة، رغم قسوة القصف وما يخلفه من دمار.
قفل النّازحون فيما بعد يعودون إلى بيوتهم أو ما تبقّى منها، وفي طريق عودتهم، أبصروا رُكامًا وَدمارًا عند تلك الرّابية. كانت نظراتهم تشير إلى ذهول ممزوج بِدمدمة رهيبة، حين وجدوا جُثّة تحتضن ذاتها، ارتضَت الهلاكَ بين أكوام من الأسلاك والحجارةِ.