لا يخفى على أحد من الباحثين والدّارسين أنّ المسيحيّة انتشرت في بلاد العرب انتشارًا واسعًا منذ القرن الرّابع لميلاد السّيّد المسيح له المجد، وأنّ كثيرًا من القبائل العربيّة كتغلب وبكر وغسّان كانت تدين بالمسيحيّة بفضل الرّهبان الذين تنسّكوا في بلاد الشّام والعراق وشبه الجزيرة العربيّة وأقاموا في أديارهم منقطعين إلى التّعبّد والصّلاة. وقد وضع عددٌ من العلماء الأجلّاء والباحثين النّبغاء هذه المسألة موضع البحث، فَدَرَسُوها دراسةً مفصّلة، وأخذوها بالنّظر والتّقصّي، أذكر منهم الدّكتور جواد علي في كتابه «المُفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، والأب لويس شيخو اليسوعيّ، وله دراسات متعدّدة في هذا المضمار، والأستاذ الدّكتور عرفان شهيد (قعوار) ابن النّاصرة الغرّاء، وقد طوّف تطوافًا واسعًا في تاريخ العرب ووضع مجموعة من المؤلّفات النّفيسة التي تزيد الموضوع وضوحًا وجلاء.
وقد كان للفصح المجيد حظٌّ كبير من الشّعر العربيّ القديم، ولا سيّما ما روي عن الشّعراء المتقدّمين الذين نبغوا في القرن السّادس، والذين أشاروا إلى هذا العيد في عبارات بليغة آسرة وصور أدبيّة ساحرة، سأقف عند بعضها وقفة عجلى أستجليها وأكشف عن شيء من معانيها ودقائقها.
وأوّل هؤلاء الشّعراء أَوْسُ بْنُ حَجَر التَّمِيمِيّ الذي كانت قبيلته تَمِيم تُقدّمه على سائر شعراء العرب لفصاحة لسانه وجزالة عبارته. وقد أشار هذا الشّاعر إلى الفصح في صورة بليغة يصف فيها رمحه الأَصَمّ، ثمّ يأخذ في وصف أجزائه مشيرًا إلى سنانه اللّمّاع السّطّاع الذي يتلألأ كما يتلألأ نور السّراج في عيد الفصح المجيد. قال: «عَلَيْهِ كَمِصْبَاحِ ٱلْعَزِيزِ يَشُبُّهُ / لِفِصْحٍ وَيَحْشُوهُ ٱلذُّبَالَ ٱلْمُفَتَّلَا» (ديوان أوس بن حجر، تحقيق محمّد يوسف نجم، 84). فهو يُشبِّه سنان الرّمح بالسّراج السَّنِيّ الذي يسطع نورُهُ في هذا العيد.
وكان للفصح أثرٌ رائعٌ في شعر عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ العِبَادِيّ، الذي كان فرقد الشّعراء العرب المسيحيّين في القرن السّادس، وقد قضى الشّطر الأخير من حياته في «الحِيرَة» عاصمة مملكة المناذرة، وترك ديوانًا حافلًا بالومضات الدّينيّة، يحدّثنا فيه عن قدرة الخالق وفناء الإنسان في هذا العالم. أمّا الفصح، فقد أشار إليه في قطعة من الأبيات يصف فيها مجلس الشّراب، وقد أقبل على ندمائه بإناء من الخمر، ثمّ شبّهه بقنديل الفصح فقال: «بِزُجَاجَةٍ مِلْءِ ٱلْيَدَيْنِ كَأَنَّهَا / قِنْدِيلُ فِصْحٍ فِي كَنِيسَةِ رَاهِبِ» (أبو الفرج الأصفهانيّ، الأغاني، القاهرة: دار الكتب، 10: 103). أقبل الشّاعر على أصحابه بهذا الإناء الضّخم الذي يَشِفُّ زجاجُهُ عن لون لمّاع برّاق، ثمّ شبّهه بقنديل الفصح الذي يتوهّج في الكنيسة.
وأشار حَسَّانُ بْنُ ثَابِت إشارة رائعة إلى الفصح في قصيدة له يمدح ملك الغساسنة في بلاد الشّام جَبَلَةَ بْنَ الأَيْهَم، وقد كان الشّاعر يَفِدُ عليه في الجولان ويمدحه ويَنزل بالمكان الأثير منه، وكان الملك يُثِيبُهُ ويقضي حقّه من البرّ والإكرام ويغدق عليه بالهدايا والعطايا. قال حسّان يصف القوم وهم يستعدّون لاستقبال العيد ويصف الفتيات اللواتي يَصنعن الأكاليل من المرجان: «قَدْ دَنَا ٱلْفِصْحُ فَٱلْوَلَائِدُ يَنْظِمْنَ / سِرَاعًا أَكِلَّةَ ٱلْمَرْجَانِ» (ديوان حسّان، تحقيق وليد عرفات، 1: 255).
تدلّنا هذه الأبيات المتقدّمة أنّ الشّعراء القدماء قد اتّخذوا سراج الفصح مثلًا للنّور الوهّاج وجعلوه وسيلةً من وسائل التّعبير والبيان والتّشبيه الأدبيّ، وهم يريدون الإشارة إلى النّور الذي يسطع يوم السّبت العظيم من قيامة السّيّد المسيح له المجد. وليس من شكّ في أنّ الصّورة الأدبيّة التي وقفتُ عندها من بيت أَوْسِ بْنِ حَجَر وبيت عَدِيِّ بْنِ زَيْد تكشف عن منزلة هذا النّور اللّألاء ومكانة هذا الحدث العظيم وأثره البعيد في نفوس المحتفلين، ولولا ذلك لما عُني هذان الشّاعران باتّخاذه وسيلة أدبيّة لتشبيه الشّيء البهيّ اللّماع الذي يبهر النّاظرين. أمّا حسّان بن ثابت، فقد خرج بنا من شبه الجزيرة العربيّة إلى بلاد الشّام يوم قَصَدَ هذا الملك الغسّانيّ، فشاهد القوم قُبَيْلَ الفصح وهم يتهيّأون لاستقبال الفصح وأشار إلى بعض ما كان يصنعونه من الأكاليل، ولعلّه أراد أن يصف الزّينة التي كانوا يُوشّحون بها الكنيسة ابتهاجًا بهذا العيد العظيم.
هذه وقفة موجزة عند بعض ما ورد من الشّعر العربيّ، وإنّي لأضرع إلى الله أن يبزغ نور المحبّة والخير والسّلام في أرجاء المعمورة، وأن يبقى سراج التّآخي والبرّ والعطاء وقّادًا بين النّاس جميعًا.