يغيبُ الوجهُ ويبقى نورُهُ ساطعًا
(إلى الذّي خلّدَهُ فكرُهُ وفنُّهُ وعملُهُ، إلى صاحبِ الوجهِ المنيرِ والقلبِ الكبيرِ والنّفسِ التي لا يتضوّعُ منها إلّا العبيرُ، إلى الإنسانِ المثقّفِ والفنّانِ القديرِ، زاهد عزّت حرش، الذي غيّبَ الموتُ جسَدَهُ في 3/12/2022، وبقيتْ أنفاسُهُ تشهقُ وتزفرُ في صدرِ حياتِنا إلى الأبدِ)
بينَ مرافقتِكَ إلى سريرِكَ التّرابيِّ، لتنامَ نومتَكَ الطّويلةَ، وبينَ رثائي لكَ، أيّامٌ يحتاجُها القلبُ، ليرفعَ رأسَهُ مِنْ فيضِ الغصّةِ التي كادَتْ تخنقُهُ وتوقفُ نبضَهُ، فيتنفّسُ بعضَ الهواءِ الجارحِ المالحِ الجائحِ مُتحسِّسًا غشاءَ روحِهِ المضطربَ، غيرَ مُدركٍ حجمَ المُصابِ.
يقفُ الصّدقُ قلقًا على مصيرِهِ، حزينًا على مآلِهِ، خائفًا مِنْ قادِمِ أيّامِهِ، باكيًا على سوءِ أحوالِهِ، فمَنْ سيَقرِنُ قولَهُ بفعلِهِ، ومَنْ سيَظْهرُ بما أبطَنَ ويجاهرُ بما أسرَّ، مَنْ سيدعو إلى خلعِ ثوبِ الزّيفِ الملوّنِ وإلقائِهِ في سَلّاتِ النّفاقِ المهملاتِ، ويرتدي ثوبَ الحقيقةِ الرّقيقةِ الشّفّافةِ الشّريفةِ الدّقيقةِ، مرّةً وإلى الأبدِ، وفي كلِّ دقيقةٍ.
تنكمشُ الشّجاعةُ في هذه الأيّامِ تضمُّ يديها فوقَ صدرِها، لتحميَ قلبَها، فقد سقطَ السّيفُ مِنْ كفِّها الصّلبةِ، دونَ أنْ تستطيعَ التّحكّمَ بأصابِعِها القابضةِ على مقبضِهِ، تقفُ الشّجاعةُ مجرّدةً مِنَ الأبيضِ القاطعِ البتّارِ، فمَنْ سيحميها من ألسنةِ الجبناءِ، صدى صهيلِ أحصنةِ الأعداءِ!
ينحني الإيثارُ أمامَ عطائِكَ، فلمْ تُبقِ لنفسِكَ بعضَ الفُتاتِ بِهِ تقتاتُ. بصقتَ على المناصبِ العاليةِ، فنزلَتْ عليها مِنْ عليائِكَ كالسّيلِ، يَجرفُ المصالحَ، والكثيرَ مِنَ الفضّةِ التي تزيّنُ الفضائحَ، وأشهرَ العطورِ التي تنشرُ شذاها على أنتنِ الرّوائحِ؛ ينحني الإيثارُ إجلالًا لقامةٍ منتصبةٍ كبِيضِ الصّفائحِ.
يَبكيكَ الإبداعُ الّذي باتَ يرى أفقَهُ البعيدَ قريبًا، بعدَ أنْ كانَ أفقُهُ القريبُ بعيدًا، فكيفَ لا يَبكيكَ أيُّها المُبدِعُ في ظهورِكَ وفي اختفائِكَ، فلم يخطرْ على بالِهِ أن تبقى في زوالِكَ، فكيفَ تُشرِقُ في غيابِكَ، كيفَ تصحو في نومِكَ، كيفَ تلمعُ في ظلامِكَ، كيفَ تَغطُسُ الشّمسُ في البحرِ، وتمتدُّ على اليابسةِ ظلالُكَ؟!
يمضي موسِمُ الزّيتونِ تاركًا خلفَهُ مِنْ حبوبِ الزّيتونِ أحجامًا وألوانًا، ومِنَ الزّيتِ ما لَذَ وما صَفا وما كَفى، وكمْ مضتْ مواسمُ! ولكنَّ الشّجرةَ المعطاءَ تبقى واقفةً وارفةً وفي كلِّ موسمٍ طارفةً. أنتَ وشجرةُ الزّيتونِ سِيَّانِ، دائما الخضرةِ، واقفانِ، يمرُّ الزّمانُ مِنْ جنبِكما ولا يدركُكُما، تحرسانِ هويّةَ الأرضِ من لصوصِ العصرِ والأوانِ، وبنورِ الزّيتِ الباقي تفيضانِ.
أبا عيسى، يا حارسَ الرّوايةِ، ومؤلّفَ الحكايةِ، يا لوحةً تختصرُ الحقيقةَ، ينامُ في حضنِها الوطنُ ويغفو مُطمئنًّا، ويصحو على هديلِ البلابلِ، في ربيعٍ حُلوِ الشّمائلِ، طالَما حلمتَ بِهِ، وعزفتَ لَهُ، وتغنّيتَ بِهِ، ورقصتْ ريشتُكَ على أنغامِهِ. أيّها الأصيلُ، يا ابنَ شفاعمرو، يا عنوانَ المدينةِ الأصيلةِ، أنتَ الجميلُ النّبيلُ، العنوانُ الجميلُ للقضيّةِ النّبيلةِ!
موطني الغائبُ كانَ جميلًا بحضورِ وجهِكَ، موطني الحاضرُ صارَ أجملَ بإشراقةِ وجهِكَ رغمَ غيابِكَ. لا يزولُ النّورُ بغيابِ الشّمسِ، ولا يختفي النّورُ بغيابِ وجهِكَ؛ نورُكَ ساطعٌ أيّها الزّاهدُ في الحياةِ، حتّى لو انقضى موسمُ الجسدِ، هكذا علّمتْنا شجرةُ الزّيتونِ الخالدة. ذكراكَ الطّيّبةُ خالدةٌ فينا يا زاهد!
الصّديق الذي لا يكفُّ عن الاعزازِ بِكَ
إياد الحاج
كفرياسيف – 11/12/2022