كلما جاء شهر آذار، أعود بالذاكرة إلى جدتي الحبيبة، تلك المرأة التي تنحدر جذورها من مدينة السّلط الأردنية. أذكر كيف كانت تجلس القرفصاء رغم أنها كانت تعاني من الوزن الزائد، تركع وتقف بكل مهارة، والشيء الخاص الذي أذكره هو ذلك (الجاعد) ( مصنوع من جلد الماعز والخرفان، يتم تنشيفه بعد دهن الجلد بالملح جيدا، يتم نشره فى الشمس حتى لا يتعفن الجلد، يستخدم الجاعد كمفرش للجلوس)، الذي كنا نجلس عليه لكي نقي أنفسنا من برد آذار، صورة هذا الجاعد الجميل لا تغيب من ذاكرتي.
تناولنا معا حبات الكستناء المشوية والتي شوتها جدتي على المدفأة، ولكي تُذهب عني ملل الساعات الطويلة، كانت تقص على مسامعي قصص جميلة بالتفاصيل المملة، اهتمت أيضا بذكر أسماء أقربائها، والدتها، جدتها وأعمامها، تعبيرا عن مدى شوقها لهم، توفت هذه المرأة الحنون دون أن تظفر برؤية أقاربها حيث أحالت الحدود ما بينهم.
جاءت بدفتر ورسمت داخله نقاطا كثيرة، رتبتها بشكل عمودي على مد النظر، اسمتها (لعبة النقاط)، أصول اللعبة هي مد خط واحد بين نقطتين بحيث تشكل خطا متوازيا يربط بينهما، يستمر الربط بين النقاط حتى يتشكل شكل المربع، ومن يستطيع اغلاق أكثر عدد من المربعات يكون هو الفائز، لعبة جميلة، تعتمد على التفكير والمثابرة والصبر.
كلما أغلقتُ مربعا كتبتُ داخله حرف (د) أول حرف من اسمي، وإن حصل وأستطاعت هي أن  تغلق أكثر عدد من المربعات، كتبت داخله حرف (ج) نسبة لاسمها (جميلة)، لقد كانت جدتي جميلة الخلق والصورة والروح.
تمنت جدتي المزيد من أيام الشتاء والبرد حتى ابقى ملتصقة بها، كم أحببتُ نشد الدفء في حضنها، خاصة عندما تبدأ بالسرد والحكي، وأنا أصغي إلى حديثها العذب بكل رهافة وصدق، تمنيت ألا تنتهي القصص، كنت أكثر أخوتي اصغاء لها واهتماما لما تقوله، لذلك اختارتني ومن بينهم أن أقيم عندها، أذكر أني دونت كل أحاديثها في مدونة خاصة أضعتها فيما بعد للأسف.
وهي تتحدث عن شهر آذار، كانت العبارات تخرج من فيها سلسلة وحيوية، لقد وُصف هذا الشهر بأن الطقس فيه يمطر قليلا ويشمس قليلا، وبالتالي فلا يجوز الاطمئنان إلى أن ينتهي موسم الشتاء كليا، فلا يمكن الاعتماد على بضعة أيام دافئة فنبدأ بتخفيف ملابسنا. امتنعت جدتي من الرضوخ لي، إن خففت من ملابسي على اعتبار أن الشتاء قد ولى، قالت لي: " سيعاقبك آذار وتصيبك حالة من البرودة والمرض، فآذار مرة شميسة ومرة أمطار، وحتى إن حدثت العواصف والسيول وهدير مرعب، لذلك دُعي بآذار الهدَّار أبو الزلازل والأمطار، بتفتح العنقة، وبدحي الشنار، وينبّل الراعي ويدفا بلا نار، وينادي يا معلمتي كَبْري الرِغفان قَصُرَ الليل وطال النهار ".
آذار، وهو الشهر الثالث من شهور السنة الميلادية حسب الأسماء السريانية المستعملة في المشرق العربي. يقابله في التسمية الغربية شهر مارس حيث كان شهراً مكرّساً للإله آشور أبي الآلهة، (الآشوريون قوم أقاموا في المنطقة الشمالية من حوض نهر دجلة، وتقدموا في علم الفلك، وكان لهم تقويمهم القمري الخاص بهم).
لقد ارتبط آذار بالأساطير الجميلة والحكايا الشعبية، وكذلك الأمثلة الرائعة باللغة الفلسطينية المحكية، أذكر منها:
" خَبي حَطَباتك الكبار لعمّك آذار". " في آذار العجوز ما بتفارق النار". " خبو الفحمات الكبار لهدرة من هدرات آذار". " آذار أبو الزلازل والأمطار، بِحَمّض اللبن وببرطِع الجمل، وتفتح العنقة والنبقة، ويبيض الشُنار، والعجوزة بترمي الشقفة على باب الدار، وأوله سقعة وآخره نار".
في روما القديمة تمّ تسمية الشهر على على اسم ماريتيوس "suitiraM" بما معناه " إله الحرب" الروماني، ويعتقد أنه يجلب الحظ لبدء الحروب فيه.
 حسب التقويم الروماني شهر مارس هو الشهر الأول في السنة، بما أن شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط لم تكن موجودة، وقام يوليوس قيصر ببدء التقويم اليوليوسي عام 45 قبل الميلاد وفيه بداية العام في 1 يناير. وقد استمر استخدام مارس كبداية للسنة في بعض البلدان لوقت طويل، على سبيل المثال لم يتم الاعتراف ببداية العام في الأول من يناير بفرنسا حتى سنة 1564م. بينما استمرت بريطانيا العظمى في استخدام 25 مارس كبداية للسنة حتى سنة 1752م، وبعدها بدأ استخدام التقويم الجريجوري.
وفي اليونان القديمة  سُمي مارس، الأتيكية "noiretsehtnA". وفى التقويم الياباني سُميَ، ياويوي (弥生). وفى اللغة الفنلندية سُميَ الشهر (ماليسكو) والذي يعنى شهر الغموض.

الصورة للتوضيح 

   راقبوا مقالات  دينا سليم  كل  يوم خميس في المدار