لا أعتقد أنه يوجد في الدنيا مصائب وقعها على النفس البشرية، أقسى من وقع الموت، إنه الحقيقة المكروهة التي لا نريد أن نصدقها، ربما لرغبتنا بالاستمرار في الحياة “الحلوة”، أو ربما لأن الموت على ما فيه من مرارة ولوعة وبكاء وحسرة، يحمل في طيَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّاتة “نعمة النسيان”، التي لم تلغِ بأي حال من الأحوال، انشغال بعض الفلاسفة والكتاب والمفكرين، برهبته، فالفلسفة الفرعونية قائمة بمجملها على فلسفة الموت، مما دعاها إلى الذهاب للتحنيط ، بغية تخليد ملوكهم وكبارهم، والمحافظة على ابقاء أجسامهم تحت الأنظار، حتى وان كانت فارقتها الحياه، ولم تبتعد عن الإنشغال بالموت أيضاً، الأديان التوحيدية، ومثلها الأديان الاصلاحية الروحية الأخرى، كالبوذية أو السيخ مثلاً، التي جعلت من الموت حكمة، وحياة أخرى،
أفضل من حياتنا على هذه الأرض، ولم يخرج عن هذا الحيز العديد من الأدباء الذين شُغِلوا بموضوع الموت، ومن أبرزهم تولستوي الذي قضى قسطاَ وافراً من عمره، وهو يكتب عنه، وفي الشعر الحديث، لم أجد أبلغ وأعمق من “جدارية” محمود درويش، التي يحاور فيها الموت، جاعلاً منه كائناً يحسن الحوار، ويتقنه في أحيان كثيرة، ولا يمكن أن ننسى ما دأب إليه شعرنا العامي في مجال الندب، وشعرنا الفصيح في البكاء على الأطلال، ولا أعتقد أيضاَ أن أحداً بوسعه أن يستنكر على أحدٍ شعوره بالحزن والأسى، نتيجة فقدانه لواحدٍ من أهله، أو من مقرَّبيه ومحبِّيه، ولكني أستغرب في الوقت نفسه هذا السيل الجارف من الكتابات التي سرعان ما تغرقنا بها صحفنا، ومواقعنا الألكترونية، كلما غادرنا واحد من الشخصيات الاجتماعية والأدبية، وأن الحبر”الإنشائي” الذي سال بعد أن غادرنا شاعرنا محمود درويش، من محابر من عرفه، ومن لم يعرفه ، وممن قرأه، ومن لم يقرأه، وممن آمن بدربه، ومن فرَّ من هذا الدرب، طمعاً بوظيفة أو مركز ما، وكأن الكتابة عنه أضحت واجباُ اجتماعياً، وأدبياً، وسياسياً، وأخلاقياً، ومن العيب، “كل العيب” أن نبخل بتقديم حبرنا الذي ما كاد يجف “تهافته وسيلانه” حول محمود درويش، حتى تجدَّد جريانه استنكاراً على اغتيال المخرج والممثل المسرحي والسينمائي، الفنان جوليانو خميس، حيث رأينا طابوراً كبيراً من الكتَّاب، وغير الكتَّاب، ومن الفنانين، وغير الفنانين، ومن المهتمين بالحركة المسرحية، وغير المهتمين، يتدافعون على مختلف الصحف والمواقع الألكترونية، لتقديم ما حبَّروه عن هذا الحدث الاجرامي المؤسف، والغريب هو أنهم لم يكتبوا عنه في حياته ولو جملة واحدة، والأغرب أنهم لم يكتبوا عن فنِّه، ولم يقتربوا في حبرهم من معالجة مسرحياته، ولم يفطنوا إلى ما امتاز به هذا الفنان القدير من أسلوب خاص في عرضه للشخوص المسرحية، أو غيرها من الأمور التي تتعلق بفنِّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّه، وبعضهم لم يكن على دراية كافية بما قدَّّّّّّّّّّمه هذا المبدع لأبناء فلسطين في جنين، أو بمواقفه السياسية الجريئة ضد الاحتلال، وعندما سألتُ أحد الذين لم يسلم فنَّاننا “الخميس” من “حبرهم”، عن أعماله المسرحية، وعن مشاركته في الأعمال الأجنبية، تلعثم، ثم راح يلقي على مسامعي شعارات يُدين فيها يد الغدر التي تعرَّضت له، ووضت حداً لحياته، وما أحوجنا في هذه الحالة أن نستعيد قول محمود درويش:، “أنقذونا من هذا الحب القاسي”، ولو أن هؤلاء الذين كتبوا عما نحن بصدده، بعمق فلسفي، وتخلًّوا عن الندب العاطفي السطحي والإنشائي، لربما أرضوا “الخميس والدرويش” أكثر بكثير من هذه الكتابات التي لا تعتبر أكثر من مجرد ندب وثرثرة.
استنكار قتله من قبل عناصر مجهولة الهوية لغاية الآن، هو أمر طبيعي ومشروع، أما الكتابة، فتحتاج الى معرفة عميقة ودقيقة بالشخص وفنه وتفكيره ونشاطه وعالمه الثقافي والسياسي، والتماثل معه، ليس بعد جريمة قتله فحسب.