الانغماس في شهوة الجسد هل هو هروب من واقع في رواية رائحة الزمن العاري ؟؟
2010-06-09 16:08:17

بقلم الناقد والكاتب د. بطرس دلة ( كفر ياسيف) هذه الرواية محاولة أولى من نوعها تكتبها الشاعرة والأديبة هيام مصطفى قبلان فتفاجئنا بروعة الأداء ، وبلغة شاعرية تليق بها كشاعرة مرهفة الحسّ ، انّها محاولة جريئة تدافع فيها هيام عن حق المرأة في الحياة ، حياة الحريّة في مجتمع ذكوري يغتال الأنوثة دون أن ترمش له عين . محاولة تصدّ لأنثى غصبها والدها المتجبّر بالزواج من ابن عمها ، حيث يلجأ الى العنف الجسدي لترضى بقراره الجائر فيحطّم كبرياءها ولأنوثتها فتحاول جاهدة شرعنة حقها في العيش مرتين، أي العيش من جديد لكن بحريّة مع من اختاره قلبها . هذا المجتمع الذي يدوس المرأة بقدميه ، وعليها أن تدوس قلبها وأن ترضى بابن عمها ، حسب التقاليد البالية ، فحبيب القلب الذي غاب عن القرية سنوات عديدة ، وعاشت ذكريات الشباب وذكراها عندما كان زوجها ابن عمها يحتلّ جسدها بينما روحها تطير وتحلّق في فضاء آخر لتصل الى " نبيل" حبيبها ، ها هو الآن يظهر من جديد تلتقي به في مكتبة القرية وقد خطّ الشيب رأسه وبدت بعض التجاعيد في محيّاه ، فهل يعود الحبيب ليعيش معها الحلم من جديد وهل ستستقبله الحياة بعد رحلته وغربته ؟

نثرا أم شعرا :- الأرض ، الوطن السليب هما رمز لعذرية بطلة الرواية " هزار" ، اختارت المؤلفة حادثا أودى بحياة الزوج " كريم" لتنطلق الزوجة الأرملة سابحة بأحلامها تعيش ذكريات حبّ صباها مع البطل نبيل ، لكن من جهة أخرى يقف أمام حريتها مانعان : الأول الأخ " نزار" الذي ورث عن أبيه عصبيته وعنجهيته وعنفوانه وأفكاره الرجعية بالنسبة لحرية الأخت ومعه يقف المجتمع الذكوري ، الذي لا يرحم الأرملة ويحصي خطواتها وكافة حركاتها . كذلك الأخت " دلال" تنتحر بسبب الضغوط العائلية والمجتمعية هنا تعيش البطلة تمزّقا داخليا وصراعا مريرا تصرّح من خلال موقفها من المجتمع في مقطع وجداني هو أقرب الى الشعر منه الى النثر ، لنقرأ ما كتبت الروائية في رثاء هذه الأخت ( ص – 20)
" لم أطلق صرختي أمامهم ، ولم أقترب من جثمانك الغافي في ملكوت سكوته ، لكنني عايشت أنين أنفاسك القاتل بدمع صامت وأنت تودّعين نور الشّمس وغبار الثّريا ، ومقعدا هزازا كانت قد تركته جدّتي في متحف الحديقة ،،،عند أحواض الحبق لفظت زفراتك الأخيرة ، وعطر انفاسك ودون استئذان من توسّلاتي أسلمت صرّة الروح لقراصنة الرحيل ، رحيلك يا توأم الروح باغتني حين حلّ فجأة في غفلة من توقّعي  " .
 
 
الاعتداء على الشّرف :- مرّت بطلة الرواية بحادث اعتداء من قبل الجنائني الذي استدعته ليعمل في حديقة المنزل ، ولما كانت تستحم فتح باب الحمام عليها فجأة وهاجمها بقوته ، وبعضلاته المفتولة ، لم تستطع " هزار" التخلّص من يديه القويتين لولا صوت ابنة الجيران حين امتدت يدها الى الباب تقرعه بطفولية هاتفة : " خالتي هزار .. أريد أن استلف قليلا من الطحين " ،،(ص -24) ولاذ الجنائنيّ بالفرار .
في هذه اللحظات القاسية وبعد أن نجحت بمنعه من أن ينال مبتغاه منها كانت تفكّر بالحبيب نبيل الذي هاجر الى الخارج بعد زواجها من كريم ، فهل ستتصرّف معه كما الآن مع الجنائنيّ ؟
في مجتمعنا العربي اليوم تقتل الفتاة التي تخطىء وتبيع شرفها في نزوة عابرة ، فهل كان أجدادنا أكثر وعيا وأبرع حنكة ؟ كان أجدادنا في القديم يعالجون موضوع الحفاظ على الشرف بفكر منفتح أكثر مما نعالجه نحن اليوم فقد كان شيخ القبيلة أو أيّ رجل كريم يكتب كتابه على من ترتكب مثل هذه الخطيئة الى أن يزوّجها من أحد أفراد القبيلة ، لكن في الوقت نفسه لا يجامعها لأن زواجه منها يكون لحمايتها من نقمة الأهل والقبيلة وقد يكتفي الشيخ بأخذها الى بيته دون كتابه عليها ويتحايل على تزويجها من أيّ رجل في القبيلة . أما القتل كحجة الدفاع عن شرف العائلة فلم يكن واردا بالحسبان ، فهل يتعلّم مجتمعنا حكمة الشيوخ هذه ؟
لو عدنا الى علاقة هزار بنبيل لوجدنا أنّ هزارا لم تسمح لنبيل أن يلامسها مع أنه احتضن يدها ولامس شعرها ، الاّ أنّها لما مرّت بتلك التجربة القاسية مع الجنائني فقد امتنعت عن الاتصال بنبيل جسدا لأنها كانت تخاف من :
1)   تكرار أزمة الاغتصاب وما تركته من أثر في نفسها .
2)   تخاف من عودة ابنتها سمر فجأة من الجامعة .
3)   تخشى من ظهور أخيها نزار فجأة .
4)   خوفا من الفضيحة في مجتمع لا يرحم .
اذن فلتكبت مشاعرها وأحاسيسها فهي تفتقد لحرية التصرّف بجسدها وبما لهذا الجسد من حقوق عليها ، فقد ضربت بأشواقها المكبوتة طوال سنين ومع أن نبيلا كان قد تزوج الاّ أنها ما زالت تفتّش في حناياه عن عطر امرأة ، وشوق أنثى !(ص-34)
وعندما تعود بذاكرتها كيف أجبرها والدها على الزواج ممن لا تحب وحرمها الزواج من نبيل حبيب القلب فهي تعود تخاطب أباها ( ص-36) :-
"صدقت يا أبي .. منذ أيام استسلمت لحلمي ، وأردت رمي وصيتك ...أردت أن اعاقبك لأنك سلبت مني مشاعر الأنثى ، والآن ألجأ اليك ..بحق السماء قل لي : هل بامكاني أن أطرد حلما اخترقني ، ويتجسّد فيّ ويتنفسه جلدي حتى النخاع ، كيف لي أن أقاوم ؟"
صراع الذات والنتيجة :- على الرغم من تساؤلاتها الكثيرة وتردّدها في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، حيث كان عليها ( أي على هزار) أن تتخذ قرارا ، تحدّد فيه نوعية العلاقة مع الحبيب العائد نبيل .
ما يقضّ مضجعها أكثر من غيره من أسباب خوفها هو دور أخيها نزار الذي تظهره الكاتبة بمظهر العميل للسلطة والانسان الذي لا ضمير عنده لأنه مستعدّ أن يقدّم أي تقرير سلبيّ عن فلان للسلطة الأمنية ( الشين - بيت) وليكن ما يكون ، وهو أي نزار شاب مليء بالحيوية والنشاط ورجعيّ في آن واحد حيث نشأ وترعرع في بيت عميل هو الأب والمعادي حتى لحرية أهل بيته ! اذن هي تعاني من التمزّق الداخلي ، فجسدها له حقوق عليها وهي تريد حياة الحرية خاصة بعد موت الزوج وتريد أن تعيش حياتها الثانية بطريقة افضل من الطريقة الأولى في الحياة .
انها تعيش الأمل في علاقة محترمة تحميها من الفضيحة أمام المجتمع ، انها تناجي نبيلا بكلماتها الشاعرية المعبرة عن أحاسيسها تجاهه . ها هي تقول في ( ص-41) ما يلي : " كم اعتراك الوجل في غربتك ، غربة النفس والوطن ، ولدت غريبا ...وسافرت غريبا ،، وعدت غريبا ..أيّها الغريب ..على تراب أرضك يناديك فؤادي عاريا الاّ منك ..ترجّل كما يترجّل الفارس عن صهوة جواده ! لم يبق لنا غير سرج الأماني ، فهل ستعتليه ثانية وتغادر ؟؟!
اذن انّها تعيش صراعا داخليا ! فالقلب يقول نعم لتجدد الحب والحياة ! والمنغصّات والمجتمع والموانع كلها تقول لا ؟ ماذا عليها أن تفعل هي تعي أن أخاها نزارا يقف لها بالمرصاد ولن يتردّد عن قتلها بادعاء الدفاع عن شرف العائلة ، أية سخافة هذه التي يؤمن بها مجتمعنا عندما يبحث عن شرف العائلة بين فخذيّ امرأة ؟
مع الفنان أدهم كانت لها تجربة تستحق التوقف عندها لنكتشف ماذا أعدّت الكاتبة هيام قبلان لهذه البطلة هزار . هل ستجنّبها محاولات اخرى للتحرّش بها جنسيا ؟ أم سوف تجعلها تعبّ من حياة الجنس كي تشبع رغباتها الجنسية ؟
في ( ص- 54) ادخلت شخصية جديدة الى حياة هزار هي شخصية الفنان الرسام أدهم الذي رسم لها لوحة بكل تفاصيل وجهها أثارت دهشتها ، وجعلتها  تنهار أمام رجولته ، تقول عن لقائها بأدهم في نفس الصفحة : " تأمّلته ، ورأت نشوة في عينيه غابت عنها عمرا ، نشوة الشباب الضائع ، وفي شفتيه رجفة ظمأى ! أحسّت بصخب انفاسه يلّف وجهها ويعانقها ... التحم الجسدان ، ولم يتكلّم أدهم . وهزار أغمضت عينيها لتغطّ في حلم عميق يوقظ سبات العمر الذي ضاع من بين أنفاسها ،، اقترب اكثر واكثر والتصق بها ، مداعبا سواحل بحرها ، أحسّت بنشوة غريبة وأطلقت لنفسها العنان ،، أحسّت بلذّة عارمة حين أحاط جسدها بشرشف منمّر ، قرب السرير ، واحتضنها بقوة وكانت النمور كلها تحوم حولها ، محتفية برقصتها على حوافي الجسد " ..( ص-54) .
طوال عامين كانت هزار تمارس الحبّ مع أدهم الاّ أنها عندما رأته ذات مساء مع احدى الفتيات يدخلان مقهى وكانت تنتظره ، قررت قطع علاقتها به خاصة بعد ان تعرفت على الفتاة التي قدّمها أدهم بأنها خطيبته .
هكذا لم يبق لها سوى نبيل تمشيا مع بيت الشعر والحكمة القائلة : نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى / ما الحب الاّ للحبيب الأول .
تجدّد العلاقة مع نبيل : - كان نبيل فنانا بكل معنى الكلمة ، فهو شاعر قبل كل شيء يجيد انتقاء جميل الكلام دون تكلّف :-ها هو يخاطبها بقوله ( ص- 65)
 
" انه آخر المدى يا حبيبة
لظلّك الصدى
للزبد ثوب الزفاف
للعروس العائدة ثغر من ندى
أعترف أنّ الجسد يخطىء والقلب يخطىء
لكن الشموع تحت الماء لا تخطىء" .
ثم أضاف :- لم يبق للجرح سوى وحدة المساء
              اتكىء على النزف ، لن استعيد جواد أبي
            لن أنتظر موجه ... لقد ملكت الريح يوما
            وعليّ أن أختار ...لن أساوم على سنبلتي
             سأركض حافيا كما البداية ...
           اهديك قصفة ريحان وزعتر
          عبير حبق ترعرع في قوارير غربتي
فترد عليه قائلة :- كفى أرجوك يا نبيل .. لا استطيع مقاومتك
يقول لها :- لا أريد أن تقاوميني ...أريدك أن تقبليني حبيبا عائدا ،،سيفه مهزوم ،،يشهق صهيلا يختزل الوقت ...
تردّ قائلة :- سأحتفظ بهذا الصهيل الى الأبد ... يا فارسي المظفّر !
شطحات وجدانية وفنيّة اللغة :- تجيد المؤلفة الكتابة نثرا وشعرا خاصة عندما تترك النص جانبا لتكتب شذرات من شعرها المبدع ، تنتقل الى فلسفة معلنة عن آرائها في مختلف القضايا الحياتية
تقول عن العشق :" انّه يضع كلّ حواسنا داخل قارورة الليل ويحكم اغلاقها ، وندمن حضور الليل الشجيّ البهاء , كادمانك على القهوة والسجائر وتظل شفاهنا وحناجرنا مغموسة في عبق رائحتها ( ص-68)
وعن النسيان تقول : انّه ادمان اليقظة وعن الخمرة ترى المؤلفة أنّ الخمرة هي يقظة حلم مخضّب بعبير الخزامى ! لأنه عندما نرتشف الخمرة ننسى شقاءنا لنصحو ثانية من حلم تجذّر في أعماق النهاية وأزاح ضحكة مكره عن وجه الوصايا ...!
وماذا تقول عن الحب ؟ " انّه اكليل مضفور بكأس خمر وفنجان قهوة ورشفة عسل ، وتعود الى الخمرة لتقول :" الخمرة ضياع والضياع ادمان ،، فهل ما زال الورد بلون الورد ؟ والنبيذ يطوّق عنقي بجرح الشوق ؟
هذه الفسيفسائيات من جمال شطحات وشذرات ، تملأ زوايا هذه الرواية وهي ضرورية من أجل متعة القراءة من جهة ومن أجل الاطّلاع على أحاسيس الشاعرة الروائية الملتهبة حبا وعشقا للحياة !!!
بعد كل محاولات الاعتداء عليها جنسيا من الجنائني مرة ومن عمها أخي أبيها مرة وبعد ضياع أملها في زوج تحبّه ويعطف عليها تشعر أنها فقدت انوثتها وفقدت ثقتها بهذه الأنوثة مع أنها كانت تعدّ نفسها للقاء الحبيب نبيل ولذلك فانّها ترثي ذاتها وترثي فيما يسمى" مرثاة الذات الأنثى بقولها ( ص- 87 ) :-
 
" نهداي فقدا الشهوة وفتنة الحلم ، حين امتدت أول يد لتقطفهما ، ثمّ تلتها يد أخرى وأياد أخريات تحب العبث ب " لعبة النهود" وما أن تمتد يد لتفكّ ازرار ثوبي ، حتى تتساقط المسافات بين العنق والابط " !ومع كل هذه المحاولات فهي لا تنسى صولة أبيها وجبروته وعنفه معها لذلك فانها ترى أنّ كلّ الرجال الذين عرفتهم كانوا صورة من أبيها " . !
الانغماس في الشهوة الجسدية كمهرب من واقع جديد :-
بعد هذه الشطحات والوجدانيات لا تتردد بطلتنا هزار في البحث عن العلاقة الجنسية مع نبيل الحبيب العائد ، فهي تحسّه يتجول في شرايينها ويسافر من العنق الى الصدر ، ويحطّ على مفصل القلب . انه مهجة الكبد ! وواهب عطش الوداد ومقبّل زهر الياسمين والأقحوان ! لذلك تريده أن يكون صدى للوقت العاري ...
ولما كان العمر بحرا يذرف دموعا من نبيذ الأشقياء ، ليروي عطش الحالمين فتغفو على ترانيم الوتر أفراح القرية النائمة على وهن وعلى وجع ! عندما تلتقي بنبيل في زيارة بيتية تقوم بها بعد أن طلبت منه زوجته الطلاق ، تجد أنّ نبيلا على استعداد للزواج منها حيث يصرّح قائلا : " أعلن نفسي زوجا وحبيبا وعشيقا ،فهل تقبلينني؟
فترّد عليه قائلة : " وأعلن نفسي زوجة وحبيبة وعشيقة ... فهل تقبلني ؟" ( ص-114 ) . هكذا تعود الى الحب القديم لكن هذه المرة مع من تحبّ وتشتهي . تتعرّى داخل الفراش مع نبيل ، عندها تصمت كل الأشياء رهبة ، يصمت النبض ورائحة الأنفاس اللاهثة ، وتشتعل شفاه أرهقها الحرمان ،جسدان عاريان الاّ من اشتعال الأحاسيس . ومع كل هذا الشبق والممارسة الجنسية فانّ هزار تمعن في تقديس حريّة جسدها ولهفتها على نبيل بقولها :
هل اقترفنا خطيئة يا نبيل ؟ لم نقترف يا حبيبتي ..هو حقنا الذي سلب منّا وأعدناه ! لقد انتصرنا عليهم وعلى كل السنين ..لا تحزني أنت حبيبتي وزوجتي أمام الله والبحر والسماء ( ص-116 ) .
المجتمع الذكوري وحرية المرأة :
بعد اللقاء مع نبيل شعرت هزار أنها عادت الى الحياة الطبيعية ، ووجدت الزوج الذي تحبّ ! الاّّ أنّ الرياح تجري بما لا تشتهي السفن ، فنزار أخو هزار يظهر فجأةويعلم أنّ اخته قد قضت ليلة مع نبيل . ولما كان نبيل رجلا وطنيا ، وكانت سمر ابنة هزار عضوا في حركة الشباب الوطني فقد كان من المقرر أن يشارك الجميع بما في ذلك هزار في المظاهرة ،، في تلك المظاهرة يشارك نبيل وهزار وسمر ، الاّ أنّ نزارا كان قد أعدّ العدّة لاغتيال نبيل . وهكذا تنطلق رصاصة غادرة تصيب نبيلا الذي يموت في ساحة التظاهر . وتتأكد هزار من أنّ يد أخيها نزار وراء عملية الاغتيال . لذلك فانّها تعود من المظاهرة بخفيّ حنين ! تعود ولسان حالها يقول :-" آه يا زمن ، أخرج من ملامح وجهك الباسم وأنتعل " رائحة الزمن العاري" في لحظة من عشق يختنق ملح البحر ! وها أنا أسير اليك حافية القدمين بين لون ووتر ! وكما على موائد الموت يتراقص الوقت عاريا ويخضرّ غصن أنين الجرح ....من بين الجموع سطع ضوء من هتاف الرب يتعالى :أماه ..أماه ... انتظريني !!!
 
الخلاصة :- بعد هذا الاستعراض السريع نخرج بأكثر من خلاصة أهمّها :-
1.     أنّ اسلوب الأديبة هيام قبلان مشوّق للغاية فهي تملك ناصية الكلام الجميل وتسترسل في وصف دقائق الأمور مقتنعة أنّ ما تصفه من مشاعر وأحاسيس جياشة هو كلّ الرواية .
2.     قوة السّرد لديها مميّزة بشكل واضح مما يضعها في مصاف الروائيين المرموقين ، فلغتها لا تتعثّر بل وتجيد انتقاء الكلمات لتضعها في أماكنها المناسبة ، فيبدو السبك جميلا والسّرد رائعا متماسكا .
3.     الرواية ككل هي زفرات روح مكبوتة فاتها قطار العمر والحب الحقيقي فعاشت تبكي فقدانه وتتلهّى بامكانية استعادته ، فاذا ما اعتقدت أنّها بلغت الهدف فانّها ستجد نفسها وقد فقدت كلّ أمل في حياة جديدة وثانية ، كما طائر الفينيق الذي يعيش مرة كل ألف عام فيضع بيضة واحدة في رحاب الأجيال ولا تعود لتفقّس الاّ بعد ألف عام .
4.     انّها تشكو بشكل صريح من ظلم أفراد العائلة : تشكو ظلم الوالد الذي لا يهتم بمشاعرها ويفرض عليها الزواج من ابن عمها الذي لا تحبه ، من أجل ذلك يلجأ الى استعمال العنف الكلامي ثم الجسدي فيصفعها بشدة أمام عنفوانه ، الأمر الذي يترك نقمة كبيرة في نفسها .
لهذه الرواية قيمة خاصة تميّزها عن غيرها من الروايات وذلك بسبب كثافة الأحداث التي تبتدعها المؤلفة . لكنها بالرغم من كثافة الأحداث وتعدّد شخصيات الرواية الذين تأتي بهم بشكل منفرد بين فكرة وأخرى ، هنا تبدو عظمة كتابة أية رواية ، لأنه ليس من السهل ادخال شخصيات عديدة ومع ذلك فانّ الأديبة هيام كانت شديدة الحرص ، حادّة الذكاء بحيث جعلت كل شخصية من شخوص روايتها ذات صفات مختلفة فيها من الجرأة ومن الحضور الذي لا يمكن أن يهمّش جانبا من صفات هذه الشخصيات وملامحها ، بحركاتها ، وصوتها ، وسلوكها . لكن من الممكن القول انّها اصطدمت ببعض  الأحداث عندما تأزّمت مشكلة البعض من هذه الشخصيات فخرجت عن مألوفها في نقد صارخ للحياة الاجتماعية التي تعيشها فقد قاست الأمرّين من ظلم الأب المستبد كما ذكرنا ، ولو أنها استسلمت لهذا الزوج جسدا الاّ أنها ظلّت متعلقة روحا مع الحبيب الأول الغائب نبيل ، فاذا ما قضى الزوج نحبه وعاد نبيل من المهجر وهجرته زوجته الأجنبية التي لم تطق العيش في القرية حيث مسقط رأس نبيل فماذا على هزار بطلة الرواية أن تفعل ؟ هل تستطيع العودة الى الحبيب والظروف باتت مناسبة لتجديد العلاقة والعيش في كنف الحبيب ؟ أم أنّ بعض العوائق قد تقف في طريق سعادتها فتلتزم لما يريده المجتمع الظالم وما يريده الأخ القاسي ؟؟!
هذا الصراع النفسي والتمزّق الداخلي عاشته بطلة الرواية وذلك لأن الكاتبة ارادت أن تشركنا معها ، أي نحن جمهور قرائها ، ولكي تبرر النهاية المأساوية التي عاشتها بطلتها ، واذا كانت الظروف قد هيّأت لها امكانية الانبعاث وتجدّد الحياة والعيش من جديد كما عنقاء الرماد فانّ الكاتبة أرادت نهاية أخرى لتجمع ظروفا جديدة تضعها حاجزا وسدّا منيعا في سبيل سعادتها لتنتهي بمأساة واصابة من تحب ! وامعانا منها بالتّشفّي جعلت هذه النهاية على يد أخيها حيث تتهمه بأنّه وراء اطلاق النار على حبيب القلب أثناء مظاهرة الاجتياح .
   الوطنية والحسّ القومي في الرواية : من يقرأ رائحة الزمن العاري يلمس موقف البطلة " هزار" من أبيها وأخيها حيث تتهمهما بالرجعية والتعامل مع السلطات الحاكمة ضد مصالح الشعب . الأب رجل رجعي تصفه بالعنيف لتبرّرمحاولة تحرّرها من قيد العبودية وعنترية المجتمع الذكوري ، من سلطته عليها واشباع رغبات جسدها في علاقة غير شرعية بنظر المجتمع خارج نطاق الزواج .
تضع الأخ موقف القاتل المجرم الذي لا يهمّه عاطفة اخته ولا أهواؤها بمقدار ما يهمه افشال المظاهرة وخدمة السلطات الحاكمة ليكسب رضاها ويضرب بمشيئة الأخت عرض الحائط .
اذا كانت الكاتبة قد اهتمّت باعادة حبيب القلب من المهجر الى حياة القرية وأنهت الرواية بفشل تجديد العلاقة ، فانّنا نذكر أنها من الصفحة الأولى وفي الاهداء ، فانّها تهدي الرواية الى :" طائر الفينيق الخارج من الرماد ، ونملك أن نحيا مرتين " .
الاّ أنّ ما حدث يثير عكس هذا الفكر حيث اختارت نهاية مغايرة لتقنعنا أنّه حتى ولو توفرت الظروف للعيش مرتين الاّ أنّ القدر سيقف لنا بالمرصاد ليمنعنا من تجدّد الحياة ! فالعيش بموجب النهاية هو لمرّة واحدة وعلينا وعلى المرأة أن تكون أكثر جرأة وانفتاحا لتقرّر مصيرها بيديها .
قلنا أكثر من مرة أنّ الكاتبة كانت جريئة في الرواية ، والحقيقة أنّها كانت فعلا جريئة لأنها أكدّت الجانب القومي والوطني الذي تؤمن به وجعلت ممن تحب يسير على هذا النهج الوطني ، ثم انّها ابنة القرية وحياة القرية فيها تحفّظ وتمسّك بالتقاليد والعادات القديمة ، سمحت لنفسها أو بالأحرى لنفس بطلة الرواية هزار أن تتصرّف بجسدها بحرية لتعيش حياة الجنس المكشوف مع أدهم خارج اطار الزوجية .
انّ هذه المحاولة الروائية في نظرنا دعوة للمرأة الى التحرر من قيود المجتمع الرجعي ! انها ثورة الأنثى التي عليها أن تأخذ بزمام المبادرة من اجل الحرية والانطلاق ومن أجل ان تلعب دورا في النضال الوطني لشعبها وليكن ما يكون ، فحرية المرأة لا تتحقق الاّ بعد أن يحقق شعبها حرّيته ! لذلك فالمرأة العربية تناضل في ميدانين ، ميدان الوطنية والحرية ، وميدان المجتمع الكابت من أجل التحرر من قيوده ،،،!
فنيّة الرواية :-  ما سوف يلمسه القارىء هو تلك اللغة الشفافة والرومانسية التي تتخلّل الرواية فتعطل عملية السّرد من أجل الحديث بلغة رائعة ، ثائرة مرة ، وهادئة مرة أخرى ، عمّا يختلج داخل صدر البطلة أو تلك من أبطال الرواية .
لنقرأ ما كتبته في ( ص-104)  مثلا :
" بيضاء كحبيبي بلون الفل وبلون حبيبتك الأقحوانة ... كيف أنساها ورائحتها تعبق في ذاكرة المكان كالخوابي المعتّقة ! كالخمر ذاكرتنا ، كمخرز في القلب والفكر ".
وتتابع في نفس الصفحة قولها :
" زهرة بلون نبضنا ، رويتها في غرفتك المطلّة على البحر بدمي وبيدي ، باحساسي وبأنفاسي ! أوراقها الحزينة لفراقك تنتظرك ، وتتظلّل بنافذة تحميها من أشعة الشمس الحارقة وتبعث اليها ضوءك وهواء البحر ...! عار هو الزمن ، يتكسّر صدى على أهداب الشفق !" هنا تسترسل الكاتبة في جوّ رومانسيّ لتتحدّث عن هواجس الفكر ومشاعر القلب وتؤكّد أنّ الزمن عار يتكسّر على اهداب الشفق، هذا الكلام المنثور شاعريّ حتى الثمالة ! وهواذ يدخل النص حتى ولو قطع تيار السرد انما يكسب الرواية بعدا فنيّا رائعا ، كما هي استراحة المسافر بعد عناء مشوار طويل يأخذ فيه نفسا وراحة وهو بحاجة ماسّة اليها ..!
في مكان آخر في ( ص-98) تقول الكاتبة :- " العمر بحر يذرف دموعا من نبيذ الأشقياء ، ليروي عطش الحالمين وتغفو على ترانيم الوتر أفراح القرية النائمة على وهن ، على وجع!"
خطوة أولى كأنين الصخر تصرخ من الألم وتستغيث ، لكنها تصحو الى الأبد ! لا بد لقلب عطش من عشق لا يساوم أن يتمرّد ، ولا بدّ من معانقة رماد البحر العاري ، لتترعرع في محاراته اشلاء لزهرة أقحوان !"
مرة أخرى ! اليس هذا النثر شعرا جميلا ؟!
أيتها المبدعة الشاعرة والأديبة ! أنت بهذه الرواية تحققين حلما طال ، راود مخيّلتك بكتابة رواية هي الابداع الأصعب بكثير من أيّ ابداع !
حقا أبدعت ونجحت بالخروج من عالم الشعر الى الرواية والعودة للمزج بينهما ، فهنيئا لأنك أثبتّ ج�%
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
X أغلق
X أغلق