عن الأنوات التي ولدتها ذئابٌ مجتمعيّة
قراءة في رواية "ذئب الله" للكاتب جهاد أبو حشيش
"ذئب الله"، رواية تُقرأ من عنوانها، يشدّك فلا تحتمل صبرًا وتفتح صفحاتها، فتأخذك، تقرأ بنهم، وتستذئب في الصفحات، لهول ما تقع عله عيناك، ولهول ما يقع في قلبك من الصدمات والأسى.
هي رواية لا تقرأ بالتقسيط، ولا مرّةً واحدةً، تُقرأ كاملةً بلهفةٍ وفمٍ مفتوحِ الدهشة، وعند الانتهاء منها، تعاود قراءتها من جديد، لتفهم....
روايةٌ بقدرِ فضائحها تتستّرُ، وبقدر تستّرها تفضح الخبايا؛ تقرأُها فتحاولُ أنْ تربِطَ الخيطانَ المبعثرةَ في النسيجِ، وتحيكُ سَجّادةَ النصِّ، لكنّكَ تكتشفُ أنَّ الكاتبَ قدْ حاكَها بطريقةٍ غريبةٍ، فتفكِّكُ الخيطانَ لتعاودَ الحياكةَ مِنْ جَديدٍ.
تنطلق الروايةُ من وقائعَ عاديّةٍ بسيطةٍ، مؤلمةٍ، قهّارةٍ، وكأنّها تصوّرُ واقعًا عربيًّا، بدويًّا، جاهليَّ الثقافة، لكنّها سرعان ما ترفَعُ الستارَ لتكشفَ حقائقَ مخيفةً.
كنّا نسمع عن نساء القصر ودسائسِهنّ، وفي الرواية نسمع عن نساء العصر الغريبات، المتناقضات، اللاتي شكّلن وربّيْن مجتمعًا كثرَت فيه الذئاب والخونة.
رواية تمتدّ على اتّساع الحدود الأردنيّة، السوريّة الإسرائيليّة، لا فضل فيها لعربيّ على أعجميّ إلّا بقدرِ تأثير هذه الشخصيّات على مستقبل وواقع المنطقة، وبقدر امتدادها على أكثر من زمنٍ، فالماضي هو اللاوعي الذي شكّل وعيَ الحاضر الجالب لمستقبلٍ عقيم؛ رواية تبدأ من بدايات لا نعرفها، وتلمّح وتصرّح وتعرض للحقيقة وجوهًا عدّة، فلا تستطيع التمييز بين صدقها وكذبها، بين واقعها ومتخيّلها، بين تدوينها وتخييلها، بين توثيقها التاريخيّ الجغرافيّ وأحداثها الاجتماعيّة العاديّة؛ تتشابك عليك الأمور بين العرب واليهود، والبدو والحضر، والأردنيّين والفلسطينيّين، والفدائيّين والمسترزقين من الثورة؛ بين السلطة الحقيقيّة ومحاولات التمرّد عليها وقلبها، لتقرأها عليك أن تفهم تبعات الأحداث من مناحي عديدة، نفسيّة وسياسيّة وتاريخيّة وتنبُّئيّة، كلّ ذلك بلغةٍ تختلف مستوياتها ولهجاتها بما يتوافق مع شخصيّاتها، ويأتي السرد بلغة سهلة، سلسة منقادة لكاتبها، تكمن صعوبتها في مدى سلاستها ممّا يضطرك للبحث عن المقصود الماثل ببساطة بحروفه ونقاطه أمامك.
لا يمكنك أن تحدّد إذا ما كانت شخصيّاتها تمثيليّة، فهي شخصيّات تجد على شاكلتها في المجتمع، وتمثّل شرائح مجتمعيّة مختلفة، لكنّك بقدر رمزيّتها تجدها واقعيّة، وبقدر واقعيّتها تجرّك نحو الرمز.
هي قصّة عوّاد الباز، الشخصيّة الرئيسة، عوّاد الذي قُتِلَ لأنّه عاير شابًّا بصِغَر عائلته، فعاد محمولًا على الأكتاف، وكانت فدية الصلح أخت القاتل واسمها "الذلول"، التي زوّجوها لأخ المقتول لتنجبَ لهم من جديد "عوّاد" بدل الذي قُتِلَ. عوّاد الصغير الذي تحرم جدّتُه عصريّة أمَّه منه فلا تعطيها إيّاه إلّا لترضعَه، قاصدةً بذلك ذُلّها وحرمانها من ابنها، لتثأرَ هي لنفسِها وقد حرموها من ابنها فقتلوه، لكنّ الجدّة عصريّة لا تدرك أنّها بفعلتها حرمت الطفل من أمّه، ومن حنانها، فنشأ صلب العود كجدّته، لا تتحرّك مشاعره، ويرمي ذاتَ يومٍ أمّه بالخطأ بطلقة رصاص وهو ينظّف سلاحه لتسمع قبل موتها لأوّل مرّة في حياتها، كلمة "يمّا"، هذا الطفل الذي نشأ على المسموحات، فوالده وجدّته ووالد جدّه من شيوخ القبيلة وكبارها، ونشأ يتستّرون على أخطائه وسرقاته، حتّى قالت عنه مليحة الأحمد حين رأته يتمشّى بسلاحه، وكان قد سرق ديكها وهو صغير: "تفووو، أكثر من هالخراب ما في خراب، يا حسرتي على بلاد ترمي حملها على كتاف حراميها". (ص. 27)
و"حراميها" هذا ينضمّ إلى الفدائيّين الفلسطينيّين بقيادة أبو الهيجا في أحراش الأردن، ينضمّ أجيرًا ليساعد الفلسطينيين، فيفضح لنا الراوي خيانة "الحاج كاديلاك" الذي باع الفدائيّين، وهو دليلهم، بطلقة ضوءٍ أغرقتهم بوابلِ موتٍ، استشهدوا فلمّ عوّاد أشلاءَهم، وعرف بالخيانة التي دفعوا ثمنها حياتهم، وكان الذئب يكبر فيه يومًا بعد يوم وحدثًا بعد حدث.
تفضح الرواية أناسًا مثل عوّاد احتُسبوا على الفدائيّين، لم يعرفوا من هو عدوُّهم، لا مبادئ لديهم ولا أجندة؛ "خلع البدلة المرقّطة والبسطار الفرنسيّ ودفن الكلاشنكوف الذي كان بحوزته، كثيرون دفنوا أسلحتهم وأحلامهم، حتّى أوطانهم دفنوها" (ص.61) تفضح الرواية الأحداث التي سبقت أوسلو، تفضح علاقة الفدائيّين بالملك حسين وبالجيش الأردنيّ، وتقول الرواية قولها: "كلّ ما نراه ونسمع عنه محض كذبة كبيرة، فلا اليهود ولا أوروبا ولا أمريكا من يتحكّم بهذا العالَم، شركات الأسلحة ومَن خلفَها هم الحاكم الحقيقيّ لهذا العالم" (ص. 15)
عوّاد الذي يدخل السجن ذئبًا صغيرًا يعوي فيه الطفل المحروم، يخرج منه يعوي فيه الذئب الذي وجدَ القطيع، قطيع المهرّبين، مهرّبي الأسلحة وتجارها، ليصبح لاحقًا واحدًا منهم، ومن الشخصيّات المركزيّة في بيع وشراء السلاح.
عوّاد الذي سرق أخته المتزوّجة حديثًا والساكنة في عمّان دُسَّ في السجن ثانيةً ليلتقي بأبي بكر الذي يعتقد أنّ عوّادًا تاجر سلاح "إنّه الشيء الذي لا يستغني عنه أحد، لن يتردّد الكثيرون من رفاقنا في بيروت فهم يعرفونك، ورفاقنا في فلسطين يحتاجونه" (ص. 80)، فتكون هذه الجملة تمهيدًا واستباقًا لنبوءةٍ ستحقّق نفسَها، ليعود عوّاد إلى أبي ناصر الذي حماه عوّاد صدفةً في السجن ونجّاه من الموت، والذي أفهمَنا الراوي من خلاله، عن تدرّج شرائح المجتمع في السجن، ذاك التدرّج الذي له ما يماثله في الحياة، وكون تجّار السلاح أعلى طبقة اجتماعيًّا، وتنفيذيًّا؛ وبعد المناوشات بين الفدائيين "الذين صاروا يحكموا ويرسموا" (ص. 55)والجيش الأردنيّ، وبعد العفو الملكيّ عن المساجين، وبعد هروب الفدائيّين والمساجين وتسلّلهم إلى سوريا، تنغلق منافذ الدنيا في وجه عوّاد، فالكهل في السجن قال لهم الحقيقة: "ما الذي تتوقّعونه، مقاومة! بأحلامكم. ما حدث كان لا بدّ أن يحدث، الأسباب ليست هي المشكلة، كلّ صراع في الكون هو صراع على السلطة" (ص. 56)؛ على لسان شخصيّاتها تأتي الأقوال التي تريد الرواية إيصالها، تأتي الرسالة التي يحملها النصّ الأدبيّ.
لانغلاق منافذ الدنيا عليه بعد خروجه من السجن وبتوجّهه لأبي ناصر، يبدأ عوّاد مشواره الذئبيّ السياسيّ ليسير على أوّل طريق بيع الأسلحة، وعلى امتداد الأحداث ينكشف أمامنا الذئب الغرائزيّ الذي يسيل لعابه على النساء، فمن جارة اخته في عمّان، إلى منال الجميلة التي حاول اغتصابها بين الحقول صغيرة، وتزوّجها سرًّا في إربد يقضي فيها شهوة جنسيّة مستذئبة، فيها من الساديّة ما يفكّ عقدَه النفسيّة، ويراضيها بعد كلّ غزوة بالذهب والهدايا لمعرفته بطمعها وجشعها، وعائشة ابنة عمّه التي تزوّجها فاستذأب فيها مُخرِجًا أمامها كلّ عقدة العصبيّة القبَليّة، وتاليا اليهوديّة من أب عربيّ التي استذأبت هي فيه، فهي التي كانت تنشب أظفارها في لحمه أثناء جماعهما وذلك للرمز بفوقيّة اليهود على العرب في العلاقات السياسيّة في المنطقة. وتتتالى الأحداث ليصبح هذا الذئبُ فريسةً للمتديّنين التكفيريّين الذين اقتادوه إلى السجن ليقنعوه أن يصبح واحدًا منهم لينجو في الدنيا والآخرة، وأنّه لن ينجو من سجنه هذه المرّة إذا لم يتواطأ ويعمل معهم، بل ويصبح واحدًا منهم، ومرغمٌ لا بطل يتديّن، ويصبح صاحب كرامات يتستّر بغطاء الوعظ واللحية، يؤمّ في المصلّين ويوزّع كراماته على المغلوبين على أمرهم، ويحتال بالدين على الناسِ، ليتسنّى له أن يبيع الأسلحةَ براحته، يبيعَ أسلحةً يجب أن يضمن التجّار إلى أين تذهب ليتأكّدوا من أنّ تجارتهم ستظلّ مستمرّة، فيكشف لهم أنّ السلاح سيباع لجماعة إسلاميّة، ويعرف من التجّار "بأنّه حتّى يوافق الإسرائيليّون على عقد الصفقة لا بدّ أن يضمنوا أنّ إسرائيل ليست المستهدفة" (ص.141)؛ وهكذا يستبدل الذئب عوّاد ابنَ آوى (أبا ناصر) الذي تقدّم في العمر، فيستلم هو قيادة البيع والشراء، وإمامة المسجد، وكرامات الصالحين، إلى أن تأتي لحظة التنوير، النهاية المفجعة بالانفجارات التي وقعت في فنادق مختلفة وكانت حصيلتها أنْ فقدَ ابن عوّاد خصيتيه، فقَدَ رجولته وإمكانيّات الخصوبة والتناسل والتكاثر، فماذا قصد الراوي بهذا الفقد؟ أهو فَقد تلك الجماعات لأوطانهم، لبيوتهم، لحالاتهم الاجتماعيّة الطبيعيّة؟ أم فقد الوطن لربيعه وعدله ذلك أنّ "عادل" هو مَن فقد رجولته.
أسئلة كثيرة تتركها الرواية تجول في خاطرك بعد فضائحها، فتعاود القراءة لتفهم، تعاود البحث في التاريخ والنبش في الأحداث الماضية والحاضرة، تستفزّك الرواية لدرجةِ التصديق والتكذيب، والإغواء والإغراء للبحث عن الحقيقة.
د. راوية جرجورة بربارة
(ألقيت هذه المداخلة في أمسية مناقشة إبداعات الكاتب جهاد أبو حشيش يوم 15.03.18 في نادي حيفا الثقافي)