العيون والقُبْلَة ، الرقص والموت كما صوّرها الفن بقلم : الدكتور منير توما كفرياسيف
29/06/2020 - 06:48:57 pm

العيون والقُبْلَة ، الرقص والموت كما صوّرها الفن

بقلم : الدكتور منير توما كفرياسيف

 

لقد دأب الفنّانون في كل مكانٍ وزمان الى توظيف فنهم بمختلف فروعه أكان تشكيليًا أو غير ذلك ، في ابراز الجمالية الكامنة في ممارسات بشرية لافتة تحمل المعاني الرمزية والمجازية، وقد حملت تلك الفنون تعبيرات إنسانية تعكس واقعًا ليس للإنسان مهربٌ من تداولها وذلك في سبيل إبهاج نفسه والآخرين ، أو تجسيد حقيقة لا مناص من مواجهتها . وأولى هذه الأمور التي تناولها الفن مظهِرًا ما فيها من جاذبية وجمال وايحاءات كانت العيون حيث أنَّ الهوى أو العاطفة التي تنبثق في الحال تدعى ، «الحب من أول نظرة» . وفي الحالات كافةً فإنّ العيون هي الوسيلة الرئيسية لتواصل العواطف . 

يكتب دانتي بأنّ الهوى مُقَدَّرٌ له أن ينحبو «اذا ما العيون واللمسات لم تشعله.» إنَّ قوة أو قدرة البصر تُعتَبر عادةً «أكثر نُبلًا» من حاستي الذوق والشم ، واعتُبِرَت العين دائمًا العضو الرئيسي للمعرفة . في العديد من الأديان ، الألوهية تتطابق مع «العين» السماوية التي ترى كلّ شيء ، تَحكُم ، ترشد ، وتنير . في الكتاب المقدّس ، نرى أنَّ الله بعد انتهائهِ من عملية الخلق ، يستعرض العالم المولود حديثًا و «يرى» أن كل شيء «جيد» . إنّ قدرة العين استثنائية . وكما يتم الانتباه والتأكيد في الأسطورة والأدب ، فإنها تأخذها نظرة واحدة ، ومضة أو نظرة سريعة الزوال ، وبطرفة عين كافية لايقاظ هوىً طاغٍ . إنّ العين ، علاوةً على ذلك ، هي تقليديًا هي «الشباك الى داخل النفس» : النظرة المُحَدِّقة لا تكذب لكنها تكشف الحقيقة وعمق مشاعر الشخص . لهذا ، فإنّه في لعبة الحب ، عندما تلتقي العيون ، تكون خطوة فاصلة حاسمة – من الجُبُن الى الطرب والنشوة ، من الوقاحة الى الاشتراك في جريمة . أخيرًا ، فإنّ العالم نفسَهُ يبدو أنه يختفي عندما ينظر المحبّان العاشقان الشبّان في عيني كل منهما للآخر ، سواء كانت تحديقات مُسْتَرَقة ، تبادلات خجولة ، أو مُشتَعِلَة ، صريحة واضحة .

وعند الحديث عن القُبلة ، فإنّها أداة قوية للعاطفة . إنَّ قوتها قد ظهرت وبرزت خلال التاريخ في الشعر ، في الفن البصري المرئي ، والموسيقى ، وفي أعمال الأدب الرفيعة الى حكايات الجن . 

ومن اللافت أنَّ القليل جدًا من الايماءات قد احتفظت بنفس المعنى الاجتماعي ، العاطفي والشخصي على مدار الألفيات مثل ما احتفظت بهِ القُبلة . وحتى داخل حدود الثقافة الغربية، فإنّ القبلة تمتد الى نظام واسع من العلاقات الانسانية . وقد لاحظنا أن الرجل الخنوع الخاضع يُقَبِّل أقدام أو أيادي رؤسائه ومَن هم أعلى منزلةً منه ؛ كذلك نرى أنَّ عضو جماعة أو زمرة أو عشيرة مثلًا يعتبر القبلة كعهد للانتماء (مثل «القبلة الأكاديمية») التي يقدِّمها الأساتذة الجامعيون الى طلبتهم عند التخرُّج) ؛ وأيضًا القبلة المتبادلة بين رؤساء الدول في احتفال رسمي للتصديق على التحالف ؛ ونذكر كذلك الكاهن وتكراره لتقبيل الكتب المقدّسة أو ثوب السيدة العذراء عند إدارة الأسرار المقدّسة ؛ إنّ يهودا الاسخريوطي كريه وبغيض الى حدٍ ما لأنّه «يُدَنِّس» القبلة باستخدامها كإشارة عن طريقها يخون المسيح . وهكذا فإنّ المعنى الاساسي والرئيسي للقبلة ، بأية حال ، تتعامل بالوجوب مع الحب . فلا أحد يمكنه أن ينسى ارتعاش روميو وجولييت عند أوّل قبلة لهما ، إنّ لحن الحب الثنائي بين عطيل وديدمونة في أوبرا ﭬﻴردي ينتهي بطلب قبلة . وفي وسط السنة اللهب في جحيم دانتي ، فإنّ ذكرى القبلة بين باولو وفرانسيسكا («هو قبّل فمي ، مُرْتَعدةً بكُلِّيَتي» ، «الجحيم» s.138 )  هي جوهرة تتلألأ بالطهارة والحب . وفي حكايات الجن ، نسمع كيف أن قبلة الأمير تشارمنغ توقِظ بيضاء الثلج من نومها الشبيه بالموت ، وقبلة أميرة شجاعة تكسر السحر الذي كان قد أحال أميرها الى ضفدع . إنَّ القبلة تُجَدِّد الواقع ، تهدّئ الصراعات ، تضع الرجل والمرأة على المستوى نفسه . إنّها المدخل الى حبٍّ تام وحب متبادل ، خالٍ من السيطرة والهيمنة والاستعباد .

وفيما يتعلق بالرقص ، فإنّه طقس استرضائي استعطافي ووسيلة يتواصل الجنس البشري بواسطتها مع الايقاعات النابضة الخافقة للعالم ، والرقص تتشارك فيه المجتمعات كافةً وهو مفتاح للانتروبولوجيا الثقافية أي علم الانسان الثقافي .

هناك الآف الطرق المختلفة للرقص ، ولكن ليس من شك أن الرقص عملية سحرية . ومن الرقصات الدائرية السلفية الى الشعائر المفروضة للحفلات الراقصة الموسيقية ، ومن الحركة الدائرية لرقص الدراويش الى الاثارة الجنسية المسبّبة للدوار لرقصة التانجو الأرجنتينيّة ، فإنّ مدى الإمكانيات هو تقريبًا غير محدود . إنّ تاريخ الفن يزوّدنا . بمرآة صحيحة للظاهرة ، مصوِّرًا الرقص في محيط العهد القديم من الكتاب المقدّس (داود الملك يرقص أمام تابوت العهد) ودورات الرسوم الجدارية المائية المقدّسة (رقصة سالومي ذات السبعة أحجبة في قصة حياة يوحنا المعمدان) ؛ في استغاثات العصور القديمة (أعياد باخوس إله الخمر المتميّزة برقص منطلِق العنان) ، اللوحات البرجوازية للإنطباعيين (من رينوار الى تولوز – لوتريك) ، الرقص المُرتَجل في الاحتفالات الفولكلورية ، والباليرنا راقصة الباليه التي صورت بشكل مُحَبَّب من قِبل دﯦﭼﺎس . إنّ وراء الموضوعات المركزية للفن والبيئات المتنوعة الى درجة كبيرة ، هناك دائمًا طرب حسيّ متوهج متقدِّ ، استسلام الى العواطف والأهواء الأولية التي تمنح أهمية ودلالة تجديدية شهوانية عميقة في عملية الرقص .

وفي ختام تناولنا للموضوعات آنفة الذكر ، نأتي الى موضوعة الموت باعتبار أنَّ المفطور على الحب أو الهوى وميّال الى العشق يكون متداخلًا ومتشابكًا مع موضوعي الحياة والموت . إنَّ ثنائية الإيروس (إله الحب والرغبة والجنس) وثاناتوس (في الأساطير اليونانية هو اله يمثل بروح لها أجنحة يجسّد الموت غير العنيف) هي أحد الثيمات أي الموضوعات المركزية الكلاسيكية في الفلسفة ، الأدب ، وفن جميع العهود .

من المعروف انسانيًا أنّه ليس هناك عاطفة أقوى من الحب ؛ إنّه أيضًا يحمل بداخلهِ إحساسًا بالزوال ، الوعي المرير بالمرور السريع للزمن ، غموض الفراق . هناك نوع من اشتهاء الموتى (نيكروفيليا) أدى الى عدد لا حصر له من الفتيات في العصر الرومانتيكي أن يتماثلوا مع شخصيات سلسلة روايات ويتخيّلوا أنفسهنَّ مرضى الى حد الموت . إنّ مرض السّل ، ذلك المرض الذي أصاب فيوليتا ﭬﺎليري في لاترﯦﭭﻴﺎتا وميمي في لابوهيم ، هو الحزن أو الأسى الكامل ليتمَّ هذا الموضوع أي الثيمة في الفن ، كأنّها تستهلك ضحاياها لغاية أنهم أخيرًا قد انتهوا في أذرع أحبائهم منفطري القلب حزنًا عليهم . إنَّ الشعر ، المسرح ، والرسم قد زودتنا بكثير من صور بطلات مأساوية أو محبين من ذوي الحظ العاثر بدون أمل أو حظ ، والذين اليهم قد وصلت قمة الهوى بالتحديد الى «اللحظة الأخيرة» . إنه من الممكن أنَّ هذه الشؤون الدامعة للآخرين ، عندما تمثّل دورها في العلن وتُؤخذ الى نقطة النهاية التطهيرية ، تزودنا بشيء من الراحة ، والذين تواريخهم الشخصية هي أكثر دنيوية وخاصة . إنهم يساعدوننا أن نفهم بأنّ أية فرصة أو مناسبة للحب هي ثمينة ويجب أن لا تُبَدَّد .

نستخلص مما تقدّم أنَّ الفن بمختلف تشعباته وأصنافهِ قد احتوى وجسّد مصورًا موضوعات تلامس حياة البشرية على شتى الصعد ، مبيّنًا تفاصيل تذهب بالفكر الانساني الى التأمل والتحليل في سبيل ارضاء فضوله وحب استطلاعه لشؤون ثقافية تهذّب الروح وتصقل الأحاسيس ، وقد رأينا فيما ورد أعلاه كيفية تطرّق الفن الى احتضان ثيمات وموضوعات لها علاقة وثيقة بممارسات وعادات وتقاليد لا يمكن للبشر أن يتجاهلوها كتبادل القبلات ، ولغة العيون ، وهواية الرقص ، ومشاعر الانسان عند اقترابه من نهايته بالموت ومفارقة الحياة .

 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق