"قَطرةٌ بقَطره" بقلم شريف صعب ابوسنان
2014-02-18 14:00:07
لم يتجرّأ أحد على الحديث في هذا الموقف الأليم أو الإستفسار عمّا حصل، فقد كان الناس باغلبيتهم يعرفون تاريخ هاتين العائلتين... وما يدور بينهما في مجال... "الجيرة الحسنة!" فنادرًا ما كان يمرُّ أسبوع دون أن يتعالى صياحهما إلى أعالي السّماء... صراخ وشتائم ورفع أيادٍ و... تهديدٌ ووعيد، كلُّ ذلك دون أن يجرأ أحد منهماعلى... ضرب الآخر أو الإساءة له... جسديًّا!
 
كانت تستمرُّ المهاوشة بينهما وقتًا طويلًا، أحيانًا، إذ  تحايدتا الوصول إلى... الشّرطة أو إلى مؤسّسات القضاء.. وكانتا تُفضّلان "بلْعَ" المهانة والكلام البذيء على تدخّل القانون بينهما!
 
هكذا كان نهجهما خلال عشرات السّنين.  معارك على نمطِ الفرّ والكرّ، مع ذلك لم تخلُ حياتهما من بعض الفترات السّلميّة... ظاهريًّا، على الأقلّ، إذ كُنّا نراهما أحيانًا، في الأعياد، تتبادلا زيارات المُعايدة... وتتظاهرا كالسّمن والعسل، مع أنّ المخفيّ، كما تبيّن لاحقًا، كان أعظم بكثير!
 
 لقد التهب الجوُّ جدًّا في هذا اليوم المشؤوم، يوم جنازة "مراد" الذي قُتل بعد أن طعنه جاره، "أبو رشاد"، طعناتٍ كثيرةً وضعتْ حدّاً لحياته.
 
لم يدرك أبو رشاد أنّ هذه الطعنات ستكون قاتلة بهذه السّرعة... رغم أّنّه في خلواته كان يحدّث نفسه كيف أنّه... سيقضي على هذا الجار اللئيم... حتّى لو آخر يوم في حياته، لأنّه... ذوّقه الأمرّيْن خلال سنوات طويلة بسوء معاملته له.
 
 دارت المعارك بين العائلتين من وقت لأخر... حتّى أنّ النّاس الّذين كانوا يهرعون للصّلح أو الفصل بينهما توقفوا في النّهاية عن ذلك حيث أنّ... كلّ "الغارات والغزوات" انتهت،عادةً، دون أن يصاب أحد بأذًى. هكذا أيضاً أصبح تعامل باقي الجيران مع هذا الأمر حيث كانوا يلزمون بيوتهم عندما كانوا يسمعون طبول الحرب تُقرع بين عائلتي مراد وأبي رشاد... فالأمر لم يعُد ذا أهميّة أو قيمة وتحوّلت هذه الحالة الى عادة!!
 
أمّا في المعركة الأخيرة فقد إختلف الأمر لأن "السّيل... قد بلغ الزّبى" ولم يعد أبو رشاد قادرًا على تحمّل هذا التعدّي السّافر المُهين الذي كثيراً ما حصل في الماضي، أمّا الآن فقد تعدّى الأمر حدود المعقول ممّا جعل الجوّ ملوّثاً ومسمّمًا تماماً.
 
فخلال أكثر من شهرين كانت مواسير المجاري عند مراد تنضح ماءً ملوثًا... نشر رائحة كريهة جداً مقابل مدخل دار أبي رشاد التي لم يفصل بينها وبين دار مراد إلّا بضعة أمتار... ناهيك عن الحشرات والبعوض الذي سبّبه ذلك "النزيف"...في هذا الصيف الحار!
 
لقد كان هذا التّعدّي بمثابة ألخطّ الأحمر بالنّسبة لأبي رشاد ولعائلته وكادت الرائحة الكريهة المقيتة أن تنكّد حياة العائلة ورغم توجّهاته لجاره مراد إلّا أنّ هذا كان يواجهه دائماً بالوعود الكاذبة أنّه... سوف يصلّحها، وهو يرسل نظرات لا مُبالية الى أبي رشاد قائلاً أحياناً إنّه... لم يجد مواسير ملائمة أو أنْ... لا وقت لديه أو أنّ... حالته الماديّة لم تسمح له وأكاذيب أخرى أشعرت أبا رشاد أنّ جاره، ربّما يتلذّذ على معاناته ومعاناة عائلته وأنّه لم يعرف أنّ... للصّبر حدودًا وأنّ قلبه قد أصبح يغلي كالقِدر على نارٍ قويّةٍ... وأنّه على وشك الإنفجار!
 
لقد كان للدّور الذي لعبته أمُّ رشاد وقعاً كبيرًا علي تأجيل "معركة الحسم" حيث أنها كانت تُهدّيء دائماً من روع زوجها وتلحّ عليه أنْ لا يُعير هذا الموضوع إهتماماً كبيراً، ذلك رغم المعاملة السّيئة التي ظهرت من مراد وعائلته خلال السّنين وكلّ ما كان يصدر من زوجته اللئيمة "زوفا" والتي لقّبها أهل الحيّ "زَوبعه" ...لسوء أخلاقها، إلاّ أنّ القرار كان قد اتُّخذ هذه المرّة ولا مجال للتراجع أو التّسامح.
 
لم تعلم الزّوجة بالثّورة التي كانت تتأجّج في صدر زوجها وأن البركان... على وشك الإنفجار. إنها لم تُقدّر ما قد يفعله "عنفوان الرجال" حيث أنّها تعرف أنّ أبا رشاد هو إنسان لطيف لا يجرؤ حتّى... على ألإساءة لنملة!  
 
في الحقيقة كان مراد جاراً سيّئاً إلى أبعد الحدود ولم تكن تهمُّه يوماً راحة  جيرانه الذين هم أيضاً عانَوْا الامرّيْن من تصرّفاته. كان أحياناً يعمل في ورشته، تحت داره، الى ساعات متأخرة من الّليل مُحدِثاً ضجيجاً لا يُحتمل وكان يُلقي الى جانب داره أرتالاً من القمامة والبقايا ممّا كان يجلب الكثير من... الجرذان والفئران والديدان. إضافة الى ذلك فقد كان جَفصاً  سيءَ الخُلق، حسوداً وقد ربّى... عدداً من طيور الدجاج والديوك مقابل دور جيرانه،وأحيانًا كلابًا ، ممّا سبّب الإزعاج كلّ الوقت خصوصاً، لأبي رشاد. وعندما أراد وضع حدود وبناء حائط بينهما، أظهر طمعه علناً و... "لوّص" المسّاحين بتقلباته وبنواياه، هادفاً أن يحصل على الأكثر... بالإحتيال!
 
 لم يشبع من كثرة الأموال التي كان يكسبها هو وأبناؤه ولم يُسمع يومًا يشكر الله على نِعمه، بل بالعكس فقد كان "نقّاقاً" كبيراً ناكراً للنّعمة.
 
 إنّ  ما زاد الطّين بِلّة أنّه كان بنفسه مقاولاً في مجال المواسير والبناء ورغم ذلك لم يُصلح ذلك العطب... الأليم...ممّا ضاعف من ضغينة أبي رشاد!
 
   و كانت الرّائحة الكريهة تهبّ باتّجاه بيت أبي رشاد دون أن يرفّ لجاره، مراد رمش...وقد مرّ أكثر من شهرين على هذا الإهمال السّافر!!
 
في الأمس عاد أبو رشاد من عمله، مساءً،ولم يكن ذلك اليوم طبيعيّا بالنّسبة له لأنّ فكره كان مُنشغلًا بمجاري جاره، جار السّوء! لقد أقسم في نفسه أنّه إذا عاد للبيت ووجد أنّ الوضع ما زال على حاله...لسوف يفعلنّ ما لم يفعله عقل بشريّ!! وبالفعل فقد حقّق الشّيطان مأربه،فمنذ أسبوع كان قد وضع في جيبه سكّينًا حادّةً...كرّسها لجاره،مراد..."مهما سيكلّفه ذلك!"إنّه لم يفكر بعواقب جُنونه هذا...فقد سيطر الشّيطان على جميع شؤونه،تمامًا!
 
....لم تستغرق"المعمعة" إلّا بضع دقائقٍ،فحال نزوله من سيّارته نظر فوجد أنّ مياه مجاري أبي جواد..ما زالت تسيل بغزارةٍ وراح يصرخ كالمجنون على أبي رشاد الذي نزل...مُترهفلًا..مُتضاحكًا من بيته، يتضاحك على ما يصدر...من جاره،أبي رشاد غير دارٍ بما يُحدّق به من أخطار!!
 
  اقترب أبو رشاد من جاره،وكلمح البصر،استلّ السّكين الحادة من جيبه ثم راح يطعن بها جاره،مراد، في صدره كالمجنون حتّى...أسقطه على الأرض...ليلفض أنفاسه خلال دقائق معدوداتٍ وهو يقول:"لَهْ يا جار...لَهْ...ها قد أحضرت الموا...المواســــــــــــــــــــــــير... كنت سأصلح العط...العطب بك...بك..بكره...ليش يا أخي فعلت..أنظر المواسيرأمامك..." وهو يشير إلى طرف الساحة التي وضع فيها المواسير قبل ساعات فقط!
 
مال  رأس مراد جانبًاوكادت عيناه "تبزّان"من وجهه...ثم لفظ أنفاسه.إنتشر خبرُ السوء كالبرق، فهرعت الجماهير إلى ساحة المعركة التي امتلأت خلال لحظات بالمواطنين وبالدّماء...!عمّت الفوضى المكان وامتلأ حيّ الورود بالأهالي وتعالى زعيق النّساء إلى السّماء ...يا لها من لحظاتٍ مروّعة!
 
كان مراد ما زال يتخبّط بدمائه التي كانت تنزف من شرايين صدره، قطرةٌ قطره وفي نفس الوقت، كانت قطرات مياه المجاري تنزف ،بانتظامٍ، من مجاري بيته ...قطرةً قطره...إلّا أنّ الفرق كان شاسعًا بين رائحة دم مراد،المسكين، و......رائحة ما كانت....تجود به "مواسير الصّرف الصّحيّ!" لقد كان ذلك اليوم من أصعب وأتعس أيّام حياتي على الإطلاق،يا لها من جريمةٍ بشعة،  تحوّل بعدها حيّ الورود الذي تجاور فيه مراد وأبو رشاد  إلى أتعس حيّ في البلاد!!!
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق