حتى لا تتحول المساجد إلى ساحات للتسول
2009-12-15 19:49:57

بعد أن انتهيت من ركعتي تحية المسجد قبيل موعد الصلاة يوم الجمعة، جلست لأقرأ بعض آيات من القرآن وانتحيت جانبا من المسجد أحاول أن أذهب لحظة في حديث مع الله تعالى أستمع إليه واستمتع بكلماته وهي تنفذ في أعماقي، ولكن جاءني خادم المسجد يخبرني أن هناك امرأة بالخارج تريد التحدث إلي.. خرجت إليها وما أن رأتني حتى انهمرت عيناها بالبكاء، بكاء أرسل في قلبي موجات من الأسى، يا ترى أي المصائب حلت بهذه المرأة الشابة حتى أذابت آماقها وحركت دموعها، وبدات تحكي لي مأساة أسرتها وموت أبيها وقسوة وفساد أخيها وكيف وافقت على الزواج للتخلص من حياتها الفقيرة ولكن الزوج استدان للنفقة على الزواج ثم ما لبث أن زج به في السجن.. وهي الآن تربي طفلتها منه والتي تحملها على صدرها، وتريد من الشيخ استدرار جيوب ومحفظات المصلين حتى ينفقوا بسخاء على أختهم...  
في حادثة أقل طرافة منذ ذلك، ورد إلى شاب من الصعيد قد أثرت في وجهه مرارة الحاجة وكلاحة البؤس، وكأن البؤس يأبى إلا أن يفصح عن نفسه، وحكى قصته والأخوات اللاتي ينفق عليهن والوالد الأجير والأم المريضة التي لا تغادر المنزل وطلب أقل القليل نفقة العودة لبلده قنا بعد أن خابت آماله بعد أسبوعين قضاهما في القاهرة دون عمل ودون أمل في عمل.. وذرفت عيناه الدموع، ولم يمكنني إلا أن أصدقه خاصة وأن بطاقته الشخصية تثبت محل إقامته وبالفعل ساعدته وتحدثت إلى بعض الإخوة لمساعدته وبعد شهرين إذا به يمر من أمام المسجد وقد أطلق العنان لسيجارته وهو في طريقه للبحث عن فريسة أخرى...
ومرة ثالثة ورابعة وخامسة، اليوم يأتيك رجل مهذب أنيق فقد حقيبته وأظلمت الدنيا في عينيه وهو بالله ثم بالشيخ، وغدا تأيتك امرأة عجوز معها صور لبطاقات أولادها البنات وهن يردن تكاليف تجهيزات الزواج وهي بالله ثم بالشيخ، ولكن الأكثر تكرارا لدرجة مفزعة هو السائل حامل الأشعة والتحليلات ووصفات الأدوية، حيث يطلب عدة آلاف لابنه أو لزوجه أو لنفسه والغالب أن هذه الفئة لا تنتظر الإذن من الشيخ بل فور انتهاء الصلاة يبادر بالوقوف بين الصفوف ويبدي شكواه التي لا تفهمها من بكائه السيال وصوته المنخنق...
لا أدري، هل أصبح المسجد ساحة لممارسة مهنة الاستجداء، وأصبحت أبواب المساجد وساعات الصلاة وصلاة الجمعة مواسم لممارسة هذا السلوك المهين غير الحضاري.. الغريب أن كثيرا من هؤلاء يدخل لهذه الممارسة تحت ضغط ظرف بعينه ثم لا يلبث أن يتخذها مهنة يمتهنها وباب رزق وبلغة إحداهن "سبوبة"، وهذه بالذات لها موقف طريف جرى أمامي فقد جلست تتحدث لصاحبتها في المهنة وأنا أجلس على مقاعد الانتظار الخلفية ، ما شعرتا بي من انغماسهما في الحديث، وقد تربعتا على بلاط المحطة، وفور أن سمعتُ صوتها انتبهت إليها فقد صاحبتني في رحلتي الأسبوعية للقاهرة سبع سنوات على متن القطار المنطلق إلى القاهرة تمر عليّ وتلقي لي بورقة تقص مأساة ابنها المريض بالمرض الملعون والذي لم يبرأ منه خلال كل هذه السنوات ولم يمت كذلك..
لا أنكر أنني كنت مستعدا للمساعدة خلال الأشهر الأولى فقط، أما بعد ذلك فقد تعلمت الدرس وخاصة بعد أن صحبني أحد الإخوة الماليزيين الدارسين بالأزهر من دمنهور إلى القاهرة وأشار إلى الاستفزاز الذي يمارسه المتسولون على الركاب، والذي بلغ بإحداهن - وهي قبيحة عجوز قذرة – أنها تحتضن فريستها على مقعده/ها في القطار حتى يدفع فدية الخلاص من أحضانها بإخراج محفظته(ها) والدفع لها، وعقب صاحب الرحلة الماليزي بأن هذه الجريمة لا يوجد لها مثيل في ماليزيا!!
على أية حال، استمرت المتسولة في حديثها لتخبر عن تعدي أحد أصحاب الـ"سبوبة" عليها ودخوله في قطارها دون إذن، علما بأن لها خمسة عشر سنة وهي تحافظ على شرف المهنة، ولا تتعدى على أحد، وخاصة أنه عزمت هذا المتعدي على قطارها في حفل زواج ابنها الأكبر منذ أشهر قليلة وقامت معه بالواجب وزيادة، وبعدين هي تعرف كيف تؤدبه لو شاءت ولكنها عملت حساب العيش والملح؟؟؟
نعود من رحاب محطة القطار مرة أخرى إلى ساحة المسجد حيث جاءتني شابة في بداية العقر الرابع من العمر ومعها ابنتها والتي بدت في بداية العقد الثاني من العمر، وكما العادة اشتكت وبكت وطلبت المساعدة إلى جانب توصية تليفوينة للحاج فلان والأستاذ فلان ولكنها لم تدرك أن أخوات المهنة قد قتلوا همة العطاء وأطفئوا لهفة قلبي للمساعدة، فهذه المرة طلبتُ بطاقتها وعقد زواجها وشهادة وفاة الزوج وبحث اجتماعي من الشئون الاجتماعية وشهادات ميلاد الأطفال ووعدتها بمرتب شهري محترم من أهل الخير إذا أحضرت الأوراق المطلوبة ومرت أسابيع وشهور ولكنها لم تعد أبدا للمسجد!!!
إن هذه الفئة ترتكب عدة جرائم في آن، فهم ينتحلون شخص المحتاج، ويمارسون الكذب والتزوير، وينتهكون حرمة المساجد والآخرين، كما أنهم يدفعون الأسخياء إلى القسوة عندما يكتشفون في كل مرة أن أموالهم تم السطو عليها من قبل مجرم أو مجرمة.. لا شك أن هناك حاجة وعوز يمر بهما الكثيرون، ولكن ذلك لا ينبغي أبدا أن يكون مدعاة للتساهل مع لصوص التسول أو أن نجعل من المساجد ساحات للتسول، وصور المتسولين أمام المساجد الكبرى بالقاهرة صور مخزية تحتاج لوقفة من كل المعنيين بدءا من مسئولي الشئون الاجتماعية والجمعيات الخيرية ومرورا بالدعاة والكتاب ومعدي البرامج الإذاعية والمرئية، وانتهاء برجال الشرطة لوقف هذه الجريمة التي تعطي صورة أبعد ما تكون عن الإسلام وتنتهك حرمة المساجد، التي جعلت للصلاة والقرآن وذكر الله وحرم فيها البيع والشراء وإنشاد الضالة ورفع الصوت وغيرها من السلوكيات المعيبة – حتى لا تتحول المساجد إلى ساحات للتسول...
 
محمد فوزي عبد الحي
باحث ومترجم - مصر

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق