وقفة مع كتاب "صيّاد.. سمكة وصنّارة"
للأستاذ المحامي فؤاد مفيد نقّارة
بقلم: الدكتور منير توما كفرياسيف
كان الأستاذ المحامي فؤاد مفيد نقّارة رئيس نادي حيفا الثقافي قد أصدر مؤخرًا كتابًا فريدًا من نوعهِ، بل استثنائيًا في موضوعه تحت عنوان "صيّاد.. سمكة وصنّارة" من تأليفهِ، وذلك انطلاقًا من حنينهِ وشوقهِ دائمًا لصيد الأسماك في البحر لكونهِ في الأصل ابن مدينة عكا وبحر عكا المشهور عبر الأزمنة والعصور، فهناك دائمًا ما يستهوي الأستاذ فؤاد نقارة من الطبيعة الجميلة الأخّاذة لمدينة عكا ببحرها وامواجه وصيد السمك فيه التي يجد في ذلك متعةً لا تضاهى، وسعادةً لا توصف، لا سيما وأنّه يذكر في اهدائهِ ومقدمته لكتابهِ امتنانه العميق لأبيه الأستاذ مفيد نقارة – أطال الله عمره – على كلِّ ما علَّمهُ إياهُ في ممارسة هواية الصيد شارحًا له أسرار البحر وطبيعته والدروس المستفادة في الحياة من قيم الصبر والمثابرة التي تؤدي الى فهم عظمة وجمال البحر.
يستهل الأستاذ فؤاد نقّارة كتابه بفصلٍ عنوانه "حكايات من شاطئ الصيد" حيث يبدأه ببابٍ حول رحلة صيد عكاوية، وصراع على سمكة، ودرس في الأخوّة حين يصف الأحداث الدراماتيكية الشائقة في هذه الرحلة بين صديقين في رحلة الصيد هذه دون التفريط في الصداقة.
ويتابع مؤلف الكتاب ببابٍ عن مبالغة صيادي البحر في رواية قصص الصيد ومغامراتها، وتضخيم الأحداث وغنائم الصيد، وكل ذلك تكتنفه روح الطرافة في مثل هذهِ المواقف.
ويقصّ علينا الأستاذ فؤاد حكاية مغامرة خطِرة، ودرس في احترام البحر من خلال رحلة صيد في مركبٍ شارك فيهِ صديق للكاتب لم يستطع فيه هذا الصديق من التماسك، طالبًا العودة الى الميناء، ولمّا كان من الخطورة بمكان العودة، لجأ هذا الصديق للنوم في مقصورة المركب ليستيقظ بعد ذلك مطمئنًا عند هدوء الأمواج قليلًا مُقسِمًا أغلظ اليمين في أنّ هذه الرحلة ستكون الأخيرة له في عالم الصيد.
وهنا يشير الكاتب الأستاذ فؤاد أنّ على الصيّاد الحقيقي أن يحترم قوى الطبيعة، وأن يتحلّى بالحكمة والشجاعة ساعة الخطر.
ويستمر المؤلف في رواية جانبٍ من أحداث الصيد البحرية، ويقدِّم درسًا في الغرور بدا من أحد الشباب وذلك من خلال رحلة صيد خريفية. بمرافقة شابٍ مغرور للمرة الأولى، حاول أن يكابر في مواجهة برد البحر ليدرك أخيرًا أنّ غروره ومكابرته لا جدوى منها في مواجهة قوى الطبيعة القاهرة، وبالتالي تَوَجّبَ عليه الإصغاء الى نصائح ذوي الخبرة لضمان السلامة.
ويُتحفنا الأستاذ فؤاد بتزويد قرّاء الكتاب بحكايات عن مغامرات صيد محفوفة بالمخاطر مقرونه بدروس من إهمال بعض أصدقاء الصيد مما يؤدي الى القلق والتوتر جرّاء حالات الإهمال هذهِ.
ولا يفوت المؤلف إثراء كتابة بعددٍ من صندوق ذكرياتهِ في رحلات الصيد على مدار السنوات المنصرمة وما تخلّلها من مواجهات مع البحر وصيد الأسماك بأنواعها المختلفة وسلوكياتها اللافتة إيجابًا وسلبًا.
ومن الفوائد المهمّة التي يقدمّها الأستاذ فؤاد الى القرّاء باعتبارهِ صيَّادًا عريقًا ماهرًا ذا خبرة كبيرة وافية وواسعة في عالم الصيد في البحر، فإنّه يأتي بعد ما سبق من أبواب في الكتاب، بفصلٍ جديد يورد فيه الحديث بشيءٍ من التفصيل أنواع أسماك واحياء البحر الأبيض المتوسط بمختلف اصنافها واسمائها مُذكِّرًا إيانا بأنَّ كل سمكة هي كنزٌ ثمين، يجب علينا حمايتها والحفاظ عليها. ونجد في هذا الفصل من الكتاب أسماء كثيرة لأنواع من أسماك البحر الأبيض المتوسط مع شرح عن أماكن تواجدها وعيشها وصفاتها وتعامل الصيادين معها. فهذه الأنواع المذكورة في الكتاب تثري القارئ بمعلوماتٍ غزيرة بل مُكَثّفة عن أسماء واصناف هذه الأسماك، فالكثير منها لا يعرفها القارئ سوى معرفته لعددٍ محدودٍ منها وذلك من خلال تجربته في شراء السمك من المسامِك أو تناولها في المطاعم، ومن بين هذه الأسماك الشائعة المذكورة في الكتاب التي نختار منها هنا والتي قد يعرفها الكثيرون:
سمكة الأَجّاج، وسمكة الدنيس، الأنتياس، الأراس، سمكة البراء "براق"، البلاميدا، البوري، التراخون، جربيدن، السردين، السّرغوس، الإسقمري أو الماكريل، سلطان إبراهيم (فهو ملك السمك بلا منازع كما يصفه مؤلف الكتاب)، فريدن، غَبَس، اللقز، مرمور، مسقار؛ بالإضافة الى أسماء واصناف أخرى غير مألوفة للعديد من القرّاء.
ومن الملاحظ أنّ المؤلف يشير الى ظاهرة مقلقة عن غياب للأسماك في شواطئ حيفا وعكا، مما يجعل الكاتب يعبِّر عن تخوفه من أنّ ذلك يهدِّد مصدر رزق العديد من الصيادين ويثير قلق محبي المأكولات البحرية. ويذكر في هذا السياق أسبابًا متعدّدة لهذهِ الظاهرة مؤكدًا على ضرورة اتخاذ الجميع خطوات مشتركة على جميع المستويات لحل هذه المشكلة المقلقة.
ومن حيث أنّ الأستاذ فؤاد نقارة يعايش البحر كصيّاد ذي خبرةٍ واسعة بأحوال الصيد في البحر، فإنّه يدرك عظم مخاطر البحر بكل تشعباتِه، ويثني في مقدمة فصل آخر من الكتاب على صبر ومثابرة الصيّادين في مغامراتهم البحريّة بحثًا عن الرزق؛ ويتطرق في هذا الفصل من الكتاب الى الحديث بالشرح المفصَّل عن أحياء بحريَّة أخرى مثل: توتياء البحر، سلحفاة الترسي البحرية الفريدة من نوعها، نجمة البحر، وفرس البحر؛ لينتقل الى عالم الرخويات البحرية في بابٍ آخر من هذا الكتاب ذاكرًا قنديل البحر، "الصبيدن" المميز بخصائصه البحرية، والأخطبوط، حيث يتناول الكاتب فيما بعد موضوعة القشريات البحرية كجواد البحر، والكركند، والقريدس "الجمبري"، والسرطانات البحرية، والسلطعون الصخري، والسلطعون الأحمر، والسلطعون النهري، والسلطعون الرملي، والسلطعون الناسك، والسلطعون الخجول، وسلطعون البرنقيل، وسلطعون العنكبوت، والأصداف البحرية بتنوعها وغرائبها.
وممّا تجدر الإشارة إليهِ أنّ مؤلف الكتاب قد عُنيَ عناية بالغة بتضمين كتابه بالصور الايضاحية الملوّنة الأنيقة لمختلف الأسماك والأحياء البحرية الوارد ذكرها في الكتاب، واهتمامه الصادق في تقديمه للقارئ كتابًا مميّزًا حافلاً بالمعلومات المُتَّسِمَة بالفوائد الخاصة والعامّة شكلًا ومضمونًا.
ومن الفرادة بمكان هنا أنّ الأستاذ فؤاد قد ختم كتابه بفصلٍ خاص تحت عنوان "مِن عشق عالم البحار الى رحلة في جمع الطوابع البريدية" يتناول فيهِ جملةً أو نخبةً وافرة متنوعة من الطوابع، يحمل كل طابع منها صورة سمكة، مشيرًا الى أنّ العديد من الدول التي تزخر بالثروة السمكية قامت بتصميم طوابع بريدية تحمل صورًا لأسماك تعيش في مياهها، مبرزةً هذا التنوع البيولوجي الفريد. ويتحدث المؤلف عن هوايته في جمع الطوابع منذ طفولتهِ في مدينة عكا حيث يُبَيِّن أنّه قد رأى في الطوابع مرآةً تعكس جمال البحر واسرارهِ. ومن الدول التي يعرض الكتاب صور طوابعها بهذا الشأن: مصر، ليبيا، لبنان، رأس الخيمة، عُمان، قطر، سوريا، اليمن، الأردن، الكويت، الفجيرة، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة. ومن اللافت أنَّ مؤلف الكتاب قد أورد صور هذه الطوابع بعناية ورؤية شفّافة تُظهرها بوضوحٍ جيّد للغاية.
وأودُّ هنا وفي نطاق حديثي واستعراضي لمضمون كتاب الأستاذ فؤاد نقارة "صيّاد.. سمكة وصنّارة" أن أُشيد بكل ثناء واطراء بمؤلف الكتاب بكونه صيّادًا عريقًا، مارس هوايته هذهِ بكل اخلاصٍ ومحبةٍ وتفانٍ، ومنحها نفحات ولمسات من روحهِ الخيِّرة الفيّاضة بالعطاء على مختلف الصُعُد: مهنيًا واجتماعيًا وثقافيًا وانسانيًا. ولا بُدَّ لي أن أؤكِّد هنا أنّ هذه السمات والخصائص التي يمتاز بها الأستاذ فؤاد، نابعة من تربيته البيتيّة الإنسانية السليمة الفاضلة في بيئةٍ تشجِّع وتنمّي قوة التحمّل والصبر والمثابرة في ممارسة هواية الصيد رفيعة المبنى والمعنى التي تُعَلِّم الكثير من الفضائل الأخلاقية والاجتماعية، وتُحفّز الإنسان على تسخير طاقاته البدنية والذهنية لما يعود بالخير والبركة والجمال الطبيعي عليهِ وعلى أفراد مجتمعه.
وقبل ختام تعليقي على هذا الكتاب حول صيد السمك وعالم البحار والماء، فقد رأيتُ من المناسب، لا بل من المهم ثقافيًا وعلى سبيل الاستزادة المعرفية أن أتعرّض بشكلٍ شخصي لِما هو خارج نصوص الكتاب الذي لم يرِد فيه ما أرغب في اضافته هنا بشأن رمزية السمكة وما يتعلق بها في حياة وعقائد بعض الشعوب، وذلك من منطلق مقولة: الشيء بالشيء يُذكَر. ومن هنا يمكننا أن نضيف تأسيسًا على عالم الأدب والثقافة والتراث العالمي، فكرة أنّ السمكة هي رمز للخصب والحياة والسعادة، واحيانًا للحكمة. وقد رافق رمز السمكة الشعوب السامية منذ البدايات. وفي الفن اليهودي كانت السمكة رمزًا للقيامة وللماء الحيّ. وعند الفُرس، السمكة مُؤَلَّهة إذ تعيش حيث لا يستطيع الإنسان العيش، وإنْ أتتْ الى عالم الانسان تموت. أما رمز السمكة في العقيدة المسيحية، فإنّه يستمر مع السيد المسيح والرُسُل ويرافق نشأة الكنيسة. فالسمكة ترمز الى المسيح الذي توزعه الكنيسة في المناولة وترمز أيضًا الى المؤمن المسيحي، بشكلٍ عام. وفي اليونانية تعني "إيكتوس" (IKHTHUS)، إذ يشير كل حرف منها الى كلمة ترتبط بيسوع المسيح وتعني "يسوع المسيح ابن الله المُخَلِّص".
ولقد شبّه آباء الكنيسة المعمَّدين الجُدد بأسماك يولدون بالإيمان في مياه جرن المعمودية. ومن الطبيعي أن تظهر السمكة في الفن الأيقونوغرافي في مشاهد كتابية كالخَلْق، وصيد السمك، ويونان (يونس)، وطوبيا، وتكثير الخبز والسمكتين، والصيد العجائبي... فإذا ظهرت وحدها فترمز الى يسوع المسيح أو الى المعمودية. واذا كانت على صينيّة أو بالقرب من سلّة الخبز فترمز الى الإفخارستيّا (تناول القربان المقدَّس).
واذا ظهرت السمكة على ظهرها سفينة فهي ترمز الى المسيح والى كنيستهِ. والسمكات الثلاث ترمز الى الثالوث. والسمكة على جرن المعمودية وثياب الكاهن ترمز، أيضًا الى المسيح. على كل حال، ترمز السمكة الى الرجاء عندما ترافق المرساة التي بشكل صليب؛ دون أن ننسى أربعة من تلاميذ المسيح ممن اختارهم أولًا قبل انضمامهم كاتباع ورسل للمسيح قد كانوا صيادي أسماك على شاطئ بحر الجليل (أي بحر طبريا) يصطادون الأسماك ويعتاشون من هذه المهنة.
أَمّا عند حديثنا عن رمزية السمك في الإسلام، فإنّ وجود الرمز السمكي يعتبر يُمنًا وبركة بحيث أنّ جزءًا من معيشة السكان أو كلها تعتمد عليها.
وكثيرة هي البلدان التي تشجِّع التوجُّه بأن الإسلام شجّع على استهلاك السمك. ومن هذه الدول تونس ومراكش ومصر. وتغلغل الرمز السمكي في تونس، منذ وقت طويل، في الحياة اليومية وامتزج في قسم كبير من العادات الغذائية والطقوس الجماعية. ويرمز السمك الى الخصب والوقاية. يبعد قوى الشر ويحمي الطفل من الأنظار الحاسدة (تمائم وتعاويذ على شكل سمكة). يحافظ على الجو الحميم في العائلة. (من هنا رسوم الرمز السمكي على سواكف الأبواب أو الأشكال السمكية التي تعلّق غالبًا أمام منازل الصيّادين في مدن تونس مثل صفاقس وجربة وسوسة وبنزرت) ويسهِّل اللقاءات وعمليات الزواج.
ويُرى أيضًا الرمز السمكي في سلاسل معلّقة في الأعناق. ومن المهم أنّ السمكة كرمز في العقيدة الإسلامية يشير الى الخصب. ومعروف أنّ القرآن حلّل أكل المنتجات البحرية دون استثناء فقد ورد في سورة المائدة: 96 الآية الكريمة "أحلَّ لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيَّارة". ويأتي القرآن في سورة الصافات: 142 على ذكر القصة التوراتية التي تتحدث عن يونس (يونان في التوراة) الذي ابتلعه الحوت: "فالتقمَهُ الحوت وهو مليمٌ".
وأخيرًا وليس آخرًا، نتقدم إلى الأخ العزيز الأستاذ المحامي فؤاد نقارة بخالص التهاني والتحيّات بتأليفهِ واصداره لهذا الكتاب القيّم الأنيق، مشيدين بالجهد المضني المشكور الذي بذله لإخراج هذا الكتاب إلى النور ليفيد جمهور القرّاء بمعلوماتٍ شاملة وجديدة من عالم الصّيد والأسماك والبحر ممّا يثري المجتمع بالثقافة الصحيّة العلمية والغذائية، وبذلك يعكس المؤلف الكريم معرفته وخبرته الواسعة في هذا الصدد لينطبق عليه قول الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي:
إذا كانَ للمرءِ عَزمٌ في إرادتِهِ
فلا الطبيعةُ تثنيهِ ولا القَدَرُ
فللأستاذ فؤاد أجمل واطيب التمنيات بدوام التوفيق والمزيد من العطاء.