نفحات الذّكريات العطِرات !
الأستاذ يوسف ناصر
.. نشأنا منذ ميعة الصّبا، وغضارة الشّباب، ونحن نحيا والشّاعر الصّديق حسين مهنّا على طيب الجوار، وصدق المحبّة بين الأهلِين في قريتي البقيعة وكفرسميع، وقد ألّفتْ بينا وأسرتينا أواصر الصّداقة والمودّة، ووشائج التّقدير والاحترام، وفوق ذلك كلّه جمعتْ بيننا قربى الحرف والقلم، وربطتنا صلة الرّحم والدّم المعروفة عادة بين أقلام الشّعراء والأدباء في كلّ عصر وجيل.
عرفت حسينًا أستاذًا قديرًا، ومربيًا مشهودًا له بين طلّابه ممّن تخرّجوا على يديه، وقد حبّب اللّغة العربيّة إلى نفوسهم، فراحوا يلهجون بذكره، ويحدّثون عن دماثته ولطفه، وقد كسبوا من معارفه، وتمثلوا بتواضعه، واتّزانه، ومحبّته للنّاس كافّة.
غاب شاعرنا من هذا العالم يزدان بسيرة معطّرة بوعيه الوطنيّ، ومضمّخة بانتمائه للقيم الإنسانيّة الرفيعة التي تدعو إلى السّلام والأخوّة بين الطّوائف والشّعوب.
عرفته شاعرًا يشهد قلمه على شاعريّته، وقد قضى سحابة عمره مغرمًا بلغته العربيّة، مطبوعًا على عشقها متضلّعًا منها، يُعنى بتنخّل تعابيرها، وتخيّر ألفاظها في نثره خاصّةً، ويتفادى فيها أن يزلّ به قدمه، فيسهو قلمه عن سقطة في اللّغة، أو هفوة في النّحو، فتخرج العبارة أخيرًا بين يديه صافيةً من كلّ شائبة، وخالصةً من كلّ عيب. فكان شاعرنا في هذه الميزة أُسوةً حسنةً، وموعظةً غير مكتوبة لدى القارئ في تنبيهه إلى ترسيخ انتمائه إلى هذه اللّغة الحسناء، والتّنبيه إلى جمالها، في زمن عقّها أبناؤها، وجحدوا فضل لِبانها عليهم!... وعندي أنّه ما سقطت أمّةٌ من الأمم إلّا بعدما سقطت لغتها من ألسنتها، فضيّعت كنوزها، واستهانت بما في خزائنها من نفائس شعرائها، وأدبائها، وراحت تمتهنها بالِاستعلاء عليها، وباستعارة غيرها من اللّغات.
غاب شاعرنا عزيزًا نأسى لفِراقه، وقد مضى من هذا العالم إلى الأبديّة وخلفه من ثمرات قلمه إرثٌ أدبيٌّ كبيرٌ، وهكذا يغيب الشّعراء والأدباء عنّا في أعماق التراب ليبقوا أحياء فوق ألسنة أقلامهم، ولتنطق للنّاس بما جادت به قرائحهم، وتتحدث عن سيرتهم. وهناك بحسرات وخطرات كئيبة، حين تمضي الأيّام بنا سِراعًا ونمضي وراءها مغلولين بوثاقها، نلقى أنفسنا بعدهم نتعلّل بنفحات الذّكريات العطِرات تهبّ علينا من ذلك الماضي السّحيق الّذي جمعنا بهم، ويأبى أن يعود إلينا يومًا!
كفرسميع