في الذكرى الأولى لرحيل الأستاذ حسين مهنا
عائلة المرحوم حسين مهنا ألأخت إم راشد والأبناء الأعزّاء، وعائلته الكبرى شعبا، ووطنا وحزنا، وحلما، وألما وأملا ومصيرا،
من الصعب أن أتكلّم عن أبي راشد بضمير الغائب، لأنه لا زال ملءَ الذاكرة والوجدان، ونحن لم نعْتد غيابه بعد، وما من مرّة جئتُ بها إلى البقيعة إلاّ وظننت أنني سأجد أبا راشد جالسًا بين الجمهور، لذلك أسْتَأذنكم لأن أُخاطبه قائلًا: أهي، بغيابك، أولى الذكريات!؟أم لأنّك حاضر بيننا بمواقفك، بعلمكَ بنثركَ بتواضعكّ بابتسامتكّ!؟
"ثمّة بقاءٌ يُرافِقُكَ وأنت غائبٌ" أيّها الحيّ في موتكَ يا مَن انتقاكَ مَلاك ذكيٌّ، يعرفُ كيف ومَنْ ينتقي بعناية فائقة
أيّها المستريح أبديّا، المَعْفي من الطائفيّة المفروضة، ومن سماع أنباء تعصر العلقم في الآذان، فتمزّقها أحتجاجا، وتوقظ الغضب في زمن يحتاجُك لِتُصْلِح له إنسانيته. أنت تسمعنا جيّدا، رغم اعتراضك على كثير مما يُقال ويحدث، لأن ما يُقال ويحدث يُزْعج هدوءك وأبديّتك وخلودَكَ، لكنّك رغما عنكَ، وعنّا، تظلّ صامتا، على غير عاددتِك.
دَعِ النومَ يطيلُ عمرَكَ، ودعِ الخلود يطيل بقاءكَ.
نحن نعرف أنّك بتواضُعِكّ لم تكن تطمح للخلود، لكن الخلود لا يقلّ ذكاءً عنكَ، يعرف كيف يتعامل مع الأذكياء أمثاله، لم يدعْكّ لحالكَ، كان بانتظاركّ على أحرّ من الجمر
ليس رثاء، لأنه لم يجُل بخاطري، ولو للحظة واحدة أن أرثي حسين مهنا، لكن القدر لا يساير خواطرنا، له حساباته ومفاجآته ومداهماته، ولا يقبل الأعذار أو الانتظار.
عذارا أبا راشد، لا أملك آليّة الكلمات كما كُنتَ تملكُها، ولا أملك القدرة على ابتكارها أو تخطّي المسافات ولا أملك القُدْرَةَ على محاورة الموت، إجلالا له وللعقيدة والإيمان بالقضاء والقَدَر، ولا أملك جرأة الاستخفاف بالموت، وإن كان موتكَ الجارح يحول دون ذلك، فعُذْراً منكَ وإن كنتُ سأحاول ذلك.
أنْ تفقدّ إنسانا ليس معناه أن تفقد شخصَه أو صورتَه أو حضوره فحسب، إنّما معناه أنكَ تفقدُ أيضًا إرثا حضاريا وثقافيا وحتى إرثا نبويّا – هو الْعلْمُ- وكما قال الرسول الكريم:
(إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ).
عرفت أبا راشد منذ زمن طويل، ولا أذكر كيف كانوالتعارف، ومنذ ذلك الحين، رغم الجغرافية ربطتنا الصداقة، عرفتُ فيه الوفاء والضمير النظيف والقلب النظيف، كان صديقا مخلصا وفيما بعد مدرّسا مُتفانيا. وأكثر من ذلك كان صادقا مع نفسه، والصدقُ مع النفس أسمى
معاني الصدق وأسمى الميّزات الإيجابيّة في البشر، ومع الزمن عرفته أمَميّا ليس حزبيا ولا طائفيّا.. كان قدوة من حيث الأخلاق والنزاهة اوالمنهج السليم في حياته حتى أنه يُمْكن القول عنه بأنه كان طبيبا روحانيّا في الفكر.
وإذا كانت سيرة المرء تُنْبئ عن سريرته، نكون أمام شخصيّة خاضت معارك العمل بعصاميّة وثقة قويّة، وفي الثقة بالنفس كثير من الشهامة التي احتفظ بها طيلة حياته ولازمته في الرخاء وفي الشدّة
يكفيه فخرا أنه كان إنسانا ظاهره كباطنه ينبذ التعصّب والطائفيّة والعنصريّة، كره التفرقة وسعى لخير الناس، كان إنسانا متواضعا إلى أشدّ حدود التواضع، وفي تواضعه كثير من أسباب عَظَمَتة.
سيبقى حسين مهنا بيننا ما حيينا، ملء القلب، نذكره في الرخاء وعند الشدّة، نذكره بأعماله العظيمة وبما ترك من كتبٍ تشير إلى أنه كان إنسانا بكل ما في الكلمة من إنسانيّة ومن نُبْلٍ وعُمْقٍ.
لا يُمكن للمرء، مهما أطنب، أن يحيط بالجانب الإنسانيّ والعلمي والأخلاقي والاجتماعيّ لأبي راشد.
يكفيه أنه لم يكن طائفيا في زمن تحظى الطائفية برعاية فريدة، وكأنها الإبن المُدلل للمؤسّسات الرسمية في هذه
البلاد، كان دينه كدين الصوفي محي الدين ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلا كل صو فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طا وألواح توراة ومصحف قرآن
ولا أجد ما أختم به كلامي عن أبي راشد سوى أن أدعو له بجنة يلتقي فيها مع الصالحين من عظماء الأمم ومُصْلحيها. ولزوجته المصون وأبنائه بطول العمر.
أمين خيرالدين