طَعمُ الخُبزِ
بقلم: سهير نقولا شحادة
انطلقت رجلاهُ مجدّدًا تسابقانِ الرّيح، خاصّة أنّ الطّابور الّذي يصطفّ
 فيه الكثيرون أمام المخبز آخذ بالامتداد يومًا بعد يوم. كيف لا وقد أوشكت الحرب بلوغ نهايتها، بعد أن كشفت عن براثنها اللّئيمة وضيّقت الخناق على السّكّان طيلة سنوات!
كان جسده الضّئيل يخفي إرادة صلبة وقوّة هائلة في المرور والتّسلّل بين المركبات العابرة دون تعرّضه لأيّ إصابة. رغم نوبات الغضب الصّارخة النّافذة من زجاج السّيّارات، إلّا أنّه لم يأبه لذلك، فكان جُلّ اهتمامه ينصبّ في القبض بحزمٍ على بضع القطع المعدنيّة الأسيرة في قبضة يده حتّى وصوله للمخبز؛ ففقدانها يعني العودة خائبًا إلى بيت جدّته دون رزمة من الخبز.
 تكبّد ناجي العناء من أجل توفير تلك النّقود، لا سيّما بعد ارتفاع سعر الخبز، ففي اللّحظة الّتي بدأت الحرب تلفظ أنفاسها الأخيرة، أخذت الأسعار تستعيد قوّتها، لتنمو وتكبر، كأنّ ماردًا تمكّن من الإفلات من سجنه المظلم وراح يصبّ جام غضبه على المساكين والأبرياء...
شرع ناجي يسير ببطء بعد أن تعب جسده من الجري، حتّى أحسّ بأنّه فقد البوصلة للاهتداء إلى الطّريق. أخذت الأفكار ترافقه في "رحلته"، بعد أن أطلقت نفسُهُ نداءً طارئًا، فتجنّدت مشاعره لتنعشَ ذاكرته...فَراحَ يتذكّر كيف كان ينعم في رغدٍ من العيش مع أبيه وأمّه قبل أن تكشّر الحرب عن أنيابها وتفتك بأرواح لم تطلب إلّا الأمن والسّلام.

وصل ناجي إلى المخبز منهوك القوى، والغبار يعلو ثيابه وشعره الكثيف المغبّر جعله يبدو كَمَنْ اِعتَلَتْهُ شيخوخة مزمنة.
 كان المكان مزدحمًا، فَتوجّب عليه - وقد بلغ من العمر أربع عشرة سنة - الانتظارَ في الطّابور إلى أن يحين دوره. في تلك الأثناء امتلأت خياشيمه بروائحَ شهيّةٍ مُنبعثة من الرّفوف والأسطح الخشبيّة؛ كعك بالجبن المحلّى، وغيرها بنكهة زبدة الفستق، الكريما مع الكرز الأحمر. حاول ناجي بكلّ ما أُوتي من قوّة تجاهل تلك الرّوائح الّتي احتلّت نفسه. بالرّغم من مقاومته الشّديدة لها، إلّا أن نضاله كان قصير الأجل، فأعلن هزيمته في غضون دقائق.
" منذ مدّة طويلة وأنا أشتهي تذوّق الكعك بالكرز! ". 
راح يخاطب نفسه وعيناه تتفقّدان النّقود المعدنيّة الّتي ما تزال تعاني حصارًا قاسيًا. في تلك اللّحظة ودون سابق إنذار، تخيّل كيف كانت أُمّه تأتيه بقرص من الكعك المحشوّ بالكريما، مُتوّجٌ بحبة كرز حمراء...كان طعمها حُلوًا كحلاوة حياته قبل الحرب اللّعينة...! 
عاش ناجي لحظات أبديّة وهو ينظر إلى تلك الكعكة، لكنّه سرعان ما انتبه لنفسه، حين وخزَتْهُ الذّاكرة كي لا ينسى وعده لجدّتهِ بألَا تسوّل له نفسه للاستعطاء أبدًا، بل وجب عليه شراء رزمة من الخبز تكفيهما مدّة أسبوع، وقرص واحد فقط من الكعك المغطّى بالسّمسم، فالنّقود الّتي بحوزته لا تحتمل شراء نوع آخر من الكعك أو المزيد من أيّ شيء...
"ماذا تريد أيّها الفتى؟" سأل البائع وقد رمى على الأربعين من العمر. 
 "أريد رزمة خبز واحدة و......."، أجاب ناجي دون أن يحوّل عينيه عن أواني الكعك السّاخن.
"وَ...؟ ماذا؟" عقد الرّجل ساعديهِ فوق صدره، بعد أن لاحظ بأنّ الماثل أمامه زائغ البصر، شارد الذّهن. 
"وماذا أيضًا؟  كرّر البائع سؤاله.
"ما ثمن قرص كعكة الكرز تلك؟" سأل وعيناه تدلّان الرّجل على مكانها... 
صمتَ الرّجل هُنيهةً ولم ينبِس ببنت شَفة، كأنّه أدرك حال الفتى. 
شعر ناجي بافتضاح أمره، فبسط كفّه دون تفكير أمام الرجل ورشقه بوابل من نظرات مُستفهِمة...
شمَظَ الرّجل الصّبيّ بكلامٍ مشحون وغمغم بلهجة صارخة، ثمّ قال: 
"خذ تلك الكعكة المكسوّة بالسّمسم، فما تحمله من نقود لا يسمح لك بشراء غيرها..."
لم تمرّ دقائق معدودة حتّى ترك ناجي المخبز وطفق يمشي لصيق السّور الحجريّ ببطء كَمِشية الذّليل...هذه المرّة الأولى الّتي يشعر بها بهذا النّوع من القهر... لم يلتفت يمنة أو يسرة ولم ينظر وراءه، بل أكمل سيره وفي جمجمته تدور حرب ضروس تأبى عقد هدنة بينه وبين مشاعره الجيّاشة. 
" يا لَحماقتي...بسطت له كفّي ليعدّ نقودي...أتستحقّ قطعة من الكعك هذا الذّل وهذا القهر...وكلامه المتحذلق..."
وصل ناجي إلى منزله حيث يقيم مع جدّته، دخل حجرته وألقى برزمة الخبز على فراشه، ثمّ راح يدور في أرجاء غرفته، كأنّه يضرب الطّرقات على غير هدى. وفي لحظة ما، أفرجت يده عن تلك الكعكة المحشوّة بالكريما والكرز، فعادت به الذّاكرة إلى ما حدث بعدها في المخبز... فقد أشفقت عليه سيّدة كانت تقف بجانبه ودفعت ثمن تلك الكعكة.
لا يزال ناجي متسمّرًا في مكانه، يتذكّر الحادثة البسيطة في المخبز...كعكة الكرز، الخبز، البائع وتلك السّيّدة...لمَ كلّ هذا القهر الّذي يشعر به الآن؟
 لم تفلح رائحة الكعكة أو نكهتها في إثارة شهيّته، بل راح يشعر كأنّه يشتمّ رائحة شيء فاسد يثير اشمئزازه، كلّما وجّه نظره صوب تلك الكعكة. 
أجال ناجي النّظر في جوانب الغرفة، فألفى كلّ شيء هادئًا ساكنًا مثله.
ألقى الكعكة في حاوية القمامة دون تردّد، وراح يتناول قطعة من الخبز. 
سُرَّ ناجي سرورًا عظيمًا حين أيقن بأنّ طعم الخبز لا يفوقه طعم، بعد أن عقد العزم في قرارة نفسه ألّا يعاود السّير لصيق الجدران مرّةً أخرى في حياته...