أثر الشاعر الانجليزي وِلْيام بليك في قصة جبران خليل جبران «الأجنحة المتكسرة» 
10/05/2022 - 02:45:53 pm

أثر الشاعر الانجليزي وِلْيام بليك في قصة جبران خليل جبران «الأجنحة المتكسرة» 

بقلم : الدكتور منير توما كفرياسيف

 

إنَّ المهجريين في اميركا الشمالية وعلى رأسهم جبران خليل جبران ، قد عالجوا حقيقة الحياة وعالم الروح ، وصدعتهم وأثرت فيهم رومنطيقية الشاعر والرسام الانجليزي المشهور وليام بليك (الذي يُعتَبر من أبرز شعراء الحركة الرومانطيقية البريطانية في القرن الثامن عشر) ، وخصوصًا روحانية الثيوصوفية ونظرياتها الحلولية والكونية ، وبرز منهم جبران باعتبارهِ رأس المدرسة الفلسفية المهجرية ، وقد تأثّر جبران بالأديب والشاعر والرسام وليام بليك تأثرًا لافتًا ، وقد رأينا جبران ، على سبيل المثال لا الحصر ، يطلق استياءً عاطفيًا وصرخةً هادئةً في ثورة انفعالية شديدة في كتابهِ الروائي «الأجنحة المتكسرة» ، وهو يحاول أن يوقظ مجتمعه من غفلتهِ . وفي هذا السياق سنتناول في السطور اللاحقة أثر وليام بليك من خلال قصيدتهِ «رؤى بنات ألبيون» (Visions of the Daughters of Albion) على ما كتبه جبران في روايته القصيرة «الأجنحة المتكسّرة» . إنّ بليك في قصيدتهِ «رؤى بنات ألبيون» (1793) التي تُعتَبَر مِن أكثر أعمالهِ الأدبية الرؤيوية صعوبةً ، يقدّم لنا شخصية «أووتون» (Oothoon) ، الشخصية المجازية للنساء البريطانيات المستعبدات في مجتمع بليك آنذاك ، حيث أن «أووتون» تُغْتَصَب بوحشية مِن قِبَل «بروميون» (Bromion) ، وبالتالي يَرْفَضُها حبيبها (ثيوتورمون) 

(Theotormon) بعد حادث اغتصابها . إنَّ «أووتون» كانت واقعة في حب «ثيوتورمون» الذي كان يمثِّل الرجل الفاضل ، المُفعم بشعور الإستقامة الزائف . لقد كانت «أووتون» ترغب في «ثيوتورمون»  ، ولكن ، كما أشرنا ، فإنها فجأةً تُغْتَصَبُ بعنف من «بروميون»  ، وبعدها لم يَعد يكثرت لها أو يعبأ بها كِلا الرجُلين «ثيوتورمون»  و «بروميون» ولا يباليان بها .

وقبل أن نخوض دراسةً مقارنةً بين قصيدة بليك هذهِ ، ورواية جبران «الأجنحة المتكسرة» ، فإن الأمر يتطلب أن نسوق هنا تلخيصًا لأحداث رواية جبران التي تُعَدّ قصة عشق لم تُكَلّل بالنجاح بين سلمى في العشرين من عمرها وبين بطل القصة الشاب وعمره 18 عامًا ، وهو الذي يروي أحداث القصة :

يزور الشاب الراوي للقصة صديق والده المدعو فارس كرامة ، وهناك يجتمع في زياراتهِ لبيت فارس كرامة مع سلمى ابنته حيث يقعان في الحب وكأنَّ روحيهما تتواصلان مع بعضهما البعض دون حديث . ولكن هذا الحب الحقيقي تعترضه معضلة وهي أنّ سلمى كانت مجبرة على الزواج من منصور ابن أخ المطران ، دون أن يكون والدها فارس كرامة راضيًا عن ذلك في حقيقة الأمر ، ولكن ضغط المجتمع يفرض على سلمى الزواج لأنه لا أحد يمكن أن يتحدى المطران ذا السلطة. وهكذا تعاني سلمى من البؤس ، وكذلك حبيبها . وأصبحت سلمى تتمنّى الموت للخلاص من حياتها الزوجية البائسة . لكن وفاة والدها تعرقل كل آمالها ، وحينها يقف حبيبها الى جانبها لمواجهة مأساتها . وبفعل الوحدة التي كانت سلمى تشعر بها بعد هذه المأساة بدأت تجتمع مع حبيبها الشاب سرًّا في معبد مهجور يتجاذبان هناك أطراف الحديث في شتى المواضيع والآمال . ولكنها بعد ذلك اضطرت الى التوقف عن اجتماعاتها السرية مع حبيبها حفاظًا على أمن الشاب ، وتختار العودة الى منزل زوجها بعد أن رفضت الهرب مع حبيبها . وبعد خمس سنوات من افتراق الحبيبين حملت سلمى بمولودها الأول الذي يموت بعد ولادتهِ وتموت سلمى بعده مباشرة لتُدفن مع مولودها في قبر والدها ، وبذلك تحقق حلمها في الخلاص من هذا الزواج . وقد وصف جبران أن قلبه دُفِنَ مع سلمى ، وكانت قصة حبه الأوّل هذه محفّزًا ودافعًا لكتابة قصته هذهِ ، وجسّد فيها ثنائية الروح والجسد ، وكان عزاؤه الوحيد أن روحه وروح سلمى سيلتقيان بعد الموت لتحرُّر الأرواح من الجسد ، وعودتها لمكانها قبل الولادة .

إنّ رواية جبران «الأجنحة المتكسّرة» هي نسخة مُعَدَّلة لمفهوم الشاعر عن البراءة والتجربة (الخبرة) . جبران وسلمى ، ولدان ينتميان بالكامل الى عالم البراءة ، يعيشان وفقًا لما يمليهِ عليهما قلباهما وخيالهما . إنهما يصبحان متحرِرَيْن من الأوهام ومُحْبَطَيْن عندما يجبران أن يجابها الواقع المرير لعالم التجربة . وبحرمانهما من تحقيق حبهما عن طريق مجموعة من القواعد الاجتماعية ورياء المطران وبخاصة تظاهره الكاذب بالفضيلة والدين ، فإنّ سلمى تموت بولادتها لمولود كُتبَ أن يموت معها ، وجبران يترك بلاده دون أن يرجع اليها أبدًا مرةً ثانية الى حين تعانق روحه روح سلمى في الأبدية . إن كتاب جبران هذا يذكِرُّنا بقصيدة وليام بليك «رؤى بنات ألبيون» . إنَّ المحبّ العاشق ، جبران ، ضعيف وغير مصمّم وليس عاقد العزم مثل «ثيوتورمون» . ومع أنّ جبران لم يرفض أو يشك بتاتًا في محبوبته ولم يتهمها أبدًا بعدم الأخلاص ولم يشعر بالغيرة من زوجها – المغتصِب ، فإنّ جبران ما زال غير قادر ٍ لإنقاذِها والتعامل مع التقاليد المجتمعية والرياء الديني الذي يستغله زوجها لامتلاكها . إنّ سلمى ، مثل «أووثون» تحب جبران . إنّها بكل ارادة وعزم تعطي قلبها له ، وهي أيضًا عازمة أن تمنحه زهرها . لقد تمّ الاستيلاء عليها بوحشية مِن قِبَل زوجها «منصور بيك» . إنّه عمليًا اغتصبها وتطلّب منها أن تكون «عاهرتهُ» . إنّ سلمى تؤمن بأنها ما زالت مخلصة ووفيّة ، وما زال بمقدورها أن تجعل حبيبها سعيدًا ، وعلى الأقل نظريًا ، ما زالت طاهرة نقيّة ، وعذراء غير مُدَنّسة . مع أنّها مثل «أووثون» ، إلّا أنها «ليست خَجِلة» وانها تدين الرياء والنفاق في الزواج والكبت في الحب ، مع أنها ليس لديها قرار العزم الذي لدى «أووثون» والثورة الصاخبة ضد مصيرها . إنّ سلمى تدين صوت الأخلاقية والفضيلة التقليدية ، مع أنها تطيعها بواسطة عدم اتخاذ عملًا حاسمًا قاطعًا لتحرير نفسها ودحض دور العبد الذي فُرِض عليها . إنّ زوجها «منصور بيك» هو «بروميون» آخر الأخلاقي الزائف . إنّه يتظاهر بالفضيلة وبالأخلاقيات ويدعم وضعه ومركزه عن طريق السلطات الاجتماعية والدينية لكنه يمارس الرغبة الجنسية والشبق والفسق والفجور . إنّ «منصور بيك» يأسر ويقبض على سلمى كزوجة بمنزلة أَمَة في عبودية ، يغتصبها ، يستنزف نصيبها ، وبعدها ينساها ليتقدم الى الضحية القادمة .

إنّنا على وعي تام بأنّ الموازاة بين العملين الأدبيين المذكورين ليست دقيقة بالضبط، ولكن نستطيع أن نفترض بأمان أنّ المقاصد والنتائج هي تقريبًا واحدة : هجوم على الأخلاقية التقليدية عن طريق انكار شرعية وصحة أصلها ؛ دعوة الى تحرير الروح المستعبدة للأنثى ، وتدمير وهدم روابط الدواعي والمبرّرات والدين الزائفة . إنّ جبران يعبِّر عن موقف عدائي قوي تجاه السلطة الدينية عن طريق استخدام ثابت لصور فنيّة للعُقم الروحي . إنه يقدم نظرية أو عقيدة اجتماعية – سياسية يكمن وراءها تصَوُّف جنسي واضح والسطح الظاهر للرومانسية المأساوية، داعيًا الى نظام اجتماعي جديد مرتكز على الأخلاقية والفضيلة المتحرّرة من المبدأ والعقيدة . يمكننا أيضًا أن نكتشف ادانة ضد العبودية الموجهة على الأخص ضد عبودية واسترقاق النساء في الزواج . يقول جبران في «الأجنحة المتكسرة» أنّ «الرجال قد ولدوا متدينين» . إنه يعبِّر عن إيمانه في وحدة الأديان ويستنتج أنه ليس هناك فرق بين دين وآخر . وبما أنَّ الأديان جميعًا تؤدي الى الطريق نفسه الذي ينتهي الى الله ، لذلك ، جميع الأديان واحدة .

وخلاصة القول أنّ جبران قد قرأ بليك واكتشفت الميل المتبادل والانجذاب بينه وبين الرسام والشاعر الانجليزي الرومانتيكي بليك ، واكتشفت أنّ لديه رؤياه نفسها.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق