الموضوعات والأفكار المركزية في قصيدة «الأرض اليباب» لِ ت.س.إليوت
15/07/2020 - 11:24:35 am

الموضوعات والأفكار المركزية في قصيدة «الأرض اليباب» لِ ت.س.إليوت

بقلم : الدكتور منير توما كفرياسيف

 

لقد كان ت.س. إيليوت (توماس ستيرنز إليوت) شاعرًا ، كاتب مقالات ، ناشرًا ، كاتبًا مسرحيًّا ، وناقدًا أدبيًّا ؛ ولد في الولايات المتحدة الاميركية عام 1888 ، وانتقل الى بريطانيا عام 1914 للعيش فيها . وتوفي عام 1965 . وقد كتب إليوت قصيدة «الأرض اليباب» (The Waste Land) ، التي لم تأخذ شكلها النهائي قبل الأربعينات ، ولهذه القصيدة أهمية وشهرة ما جعلها لصيقة بإليوت . وهي تتألف من أربعة أقسام هي على التوالي :

«دفن الموتى The Burial of the Dead ، «لعبة الشطرنج» A Game of Chess  ، عظة النار The Fire Sermon ، «الموت بالماء» Death by Water ومقالة الرعد» What the Thunder Said .

تمتاز قصيدة «الأرض اليباب» بموسوعيتها وعمقها واستعصائها على الفهم ، والحق أنّه يمكن قراءة القصيدة على عدة مستويات من بينها المستوى الروائي ، فهي قصة تغطي حقبة من الزمن تمتد على مدى اثنتي عشرة ساعة . وهي تنساب عبر مجرى الوعي ، أي أنها ذات حبكة تحصل في ذهن المتكلِّم لا في العالم الواقعي . وفي هذه القصيدة يتعامل اليوت مع كل من فكرة الزمن الانساني وفكرة مجرى الوعي . وتتكون تقنية «الأرض اليباب» من تجاور الحداثة المتطرفة والصوفية والرمزية الدينية المستقاة من الماضي . فالقصيدة توضّح فهم اليوت للماضي بوصفه جزءًا فعالًا من الحاضر ، كما توضّح اعتقاده الرامي الى أنّ المادة المتباينة المقتطفة من الماضي يمكن ايلاجها في خلق جديد له هو الآخر فعاليته الخاصة بهِ .

وتبيّن القصيدة مفهوم العود الأبدي للشيء نفسه . وعلى مستوى آخر من مستويات الفهم ، أدخلت القصيدة على هذا المفهوم دور الولادة والنمو والنضج والتفسخ والموت والولادة من جديد ، وبذلك كررت موضوعة العود الأبدي . ووفقًا للتحليل الذي قدمه اليوت للقصيدة ، يعتبر تايريسياس الشخصية المركزية فيها ، وما يراه تايريسياس هو جوهرها . فهو لم ير ويمارس هذه الأحداث في ماضيه فحسب ، بل لقد تنبّأ بهما للمستقبل وسبق له أن عانى منها. وهكذا فإنّ المستقبل يتزامن مع الماضي والحاضر ، وكذلك فإنّ الشخصيات الأخرى كافةً تندمج في تايريسياس كما يقول اليوت . ويؤمن تايريسياس هذا بأنّ الانعتاق الوحيد هو الموت لأنّ من الموت تخرج الولادة الثانية فالموت والولادة الثانية يشكلان دورة العود الأبدي التي هي تبيان لديمومة الزمن . وبذلك يقع الزمن في قلب رؤية تايريسياس ، غير أنه زمن الديمومة اللامحدود . وتبيّن القصيدة التوافق بين القديم والجديد في خلق أدبي واحد .

وقبل أن نتناول بالبحث الموضوعات والأفكار المركزية للقصيدة ، فإنّه من الجدير أن نقدّم ملخّصًا مقتضبًا لها بأقسامها كافةً .

تبدأ قصيدة «الأرض اليباب» بقسم يحمل عنوان «دفن الموتى» . وفي هذا القسم ، الذي من الجائز أن يكون الراوي تمثيلًا لإليوت نفسه – وهو يصف الفصول . إنّ الربيع يجلب «الذاكرة والرغبة» ، وهكذا فإنّ ذاكرة الراوي تنجرف أو تندفع مرة أخرى الى الأوقات في ميونخ ، الى أيام ركوب المزلجة في الطفولة ، والى مغامرة قصة الحب مع «بنت مكحّلة» . إنَّ الذكريات فقط تذهب حتى الآن ، على أية حال .الراوي محاط الآن بأرضٍ مهجورة ملآى «بنفايات حجرية».

إنّه يتذكّر عرّافة تدعى مدام سوسوسترس التي قالت أنّه كان «الملّاح الفينيقي الغريق» ويجب أن «يخاف الموت بواسطة الماء» . بعد ذلك يجد نفسه على جسر لندن ، محاطًا بجمهور من الناس . إنه يكتشف هناك صديقًا له من أيام الحرب ، وينادي له .

القسم الثاني من القصيدة الذي يحمل عنوان «لعبة الشطرنج» ينقل القارئ فجأةً من شوارع لندن الى غرفة رسم مطلية بالذهب ، وفيها تجلس سيّدة غنيّة مزيّنة بالجواهر تشكو من اعصابها وتتساءل ماذا تفعل . القصيدة تنجرف مرة أخرى ، وهذه المرة الى حانة في وقت الإغلاق فيها امرأتان تنتميان الى أفقر أحياء لندن وهما تتبادلان حديث القال والقيل . وضمن مقاطع شعرية قليلة ، نكون قد انتقلنا من القشرة العليا للمجتمع الى حياة لندن الدنيا .

أما القسم الذي يحمل عنوان «عظة النار» فإنّه يُفْتتَح بصورة لنهر . الراوي يجلس على الضفاف ويتأمل مستغرقًا في التفكير حول الحالة البائسة للعالم . وكما تريسياس ، هو يرى رجلًا جَمْرِيًّا صغير السن يثب في الفراش مع طابعة أنثى وحيدة ، فقط كي يمارس الحب معها بعدوانية وبعدها يغادر دون تردد . القصيدة تعود الى النهر ، حيث الصبايا يغنين أغنية عويل ورثاء ، واحدى هذه الأغاني عبارة عن بكاء حول فقدانها للبراءة من قِبَل رجل شهواني شبيه بالرجل المذكور آنفًا .

إنّ القسم الرابع للقصيدة «الموت بالماء» ، يصف فينيقيًا ميّتًا مُستلقٍ في الماء – ربّما هو الملاح الغريق نفسه الذي تحدثت عنه مدام سوسوسترس .

«مقالة الرعد»  في هذا القسم ينقل ويغيِّر الأمكنة والمواقع من البحر الى الصخور والجبال . الراوي يصرخ طلبًا للمطر ، وأخيرًا يأتي المطر . إنّ الرعد الذي يرافقه يواكب القول المأثور ثلاثي الشُعَب المنبثق من بريهادارانيكا أوبنيشاد : «داتا ، ديادﮬﭭﺎم ، دامياتا»  كما وردت باللغة الهندية وهي تعني : أن تعطي ، أن تتعاطف ، أن تتحكّم . بهذه الوصايا ، البركة ممكنة ، رغم أنّ انهيار الحضارة في الطريق - «جسر لندن يسقط ، يسقط ، يسقط»  .

وبتطرقنا لثميات القصيدة أي موضوعاتها المركزية ، فإنّ ثيمة الموت هي في مقدمة هذه الموضوعات حيث أنّ قسمين من هذه القصيدة وهما  «دفن الموتى» و «الموت بالماء» - يرجعان بالتحديد لهذه الموضوعة . وما يُعَقِّد الأمور هو أن الموت يمكن أن يعني الحياة ; وبعبارة أخرى ، فإنّه بالموت ، يمكن للكائن أن يمهّد ويُعَبِّد الطريق لحيوات جديدة . إليوت يسأل صديقه ستيتسون ؛ «تلك الجثة التي غرستها العام الماضي في حديقتك ، هل بدأت تبرعم؟ هل ستزهر هذه السنة؟» . بشكل مشابه ، المسيح بموته ، قد افتدى البشرية وبذلك أعطى حياة جديدة . إنَّ القطعة بين الحياة والموت تجد لها صدى في الإشارات المتكرّرة لدانتي ، خصوصًا في رؤيا شبه المَطْهَر للرجال يتقاطرون عبر جسر لندن ومن خلال المدينة الجديدة .

وهناك ثيمة أخرى في هذه القصيدة وهي الولادة الجديدة ، فصور المسيح في القصيدة ، مع الاستعارات الدينية الأخرى الكثيرة ، تضع وتثبِّت الولادة الجديدة والإنبعات كموضوعات مركزية . إنَّ الأرض اليباب تمتد كأرض محروثة متروكة من غير زرع أي ما يُعرَف بالأرض المُراحة ، والملك الصيّاد هو عنيّن أي عاجز جنسيًا ؛ والشيء الذي يُحْتاج إليه هو بداية جديدة . الماء ، للواحد ، يمكن أن يؤدي ويجلب الولادة الجديدة ، ولكنه يمكن أيضًا أن يُدَمِّر. والشيء الذي يتوجب أخيرًا على الشاعر هو أن يتحول الى السماوات ، في التبادل المناخي مع المناخ : «داتا ، ديادﮬﭭﺎم ، دامياتا». إنّ رؤيا إليوت هي في الأساس عن عالم لا يموت ولا يحيا؛ ولكسر السحر ، يتطلب الأمر ، تغييرًا عميقًا ، ربّما تغيير يفوق الوصف . من هنا ، إذن تصوير الكأس المقدّسة في القصيدة ؛ حيث أنّ تلك الكأس المقدسة يمكن أن تستعيد الحياة وينظِّف ويُنَشِّف بالمسح لوح الصخر الاردوازي وجعله نظيفًا ؛ وبنفس كيفية التشابه ، يعود اليوت بصورة مكرّرة الى عمليات العُمّاد والأنهار – كلاهما «مانحا الحياة»، سواء في الوسائل الروحية أو الجسدية .

واذا بحثنا عن موضوعة أخرى في القصيدة نجد أنَّ «الأرض اليباب» تُفتَتح بتَضَرُّع وابتهال لشهر نيسان «الشهر الأكثر قسوةً» . إنّ ذلك الربيع يُصَوَّر كقاسٍ هو اختيار لافت للنظر بغرابته من جانب إليوت ، لكن كتناقض ، فإنَّ ذلك يعطيه شكلًا وينفخ حياةً في بقية القصيدة الى درجة كبيرة . إنَّ ما يجلب الحياة يجلب أيضًا الموت ؛ الفصول تتقلّب ، تدور بسرعة من حالة الى أخرى ، لكن ، مثل التاريخ ، فإنها تحافظ على بعض النوع من الركود ؛ ليس كل شيء يتغير . وفي النهاية ، فإن «الأرض اليباب» عند إليوت هي تقريبًا لا فصل لها : مجرّدة وخالية من المطر ، الانتشار ، ومن التغير الحقيقي . العالم يتكئ في مَطْهَر دائم أبدي ، منتظرًا فجر فصل جديد . واذا استقصينا موضوعات مركزية إضافية في القصيدة فلرُبّما الحَدَث الأكثر شهرةً في «الأرض اليباب» يستغرق ارتباط الطابعة الأنثى برجل «جَمْرِي» . إليوت يصوِّر المشهد كشيء مماثل لاغتصاب . إنَّ هذه المواجهة الجنسية بالمصادفة تحمل معها أمتعة ميثولوجية – فيلوميلا المغتَصَبة ، تريستاس الأعمى الذي عاش لوقتٍ ما كامرأة . الجنسيّة تعبر بسرعة «الأرض اليباب» ، متّخذة مرحلة مركزية كسبب للفاجعة أو البؤس في «عظة النار» . ومع ذلك ، فإنّ إليوت يدافع عن «استسلام لحظة» كجزء من وجود في «مقالة الرعد» . الرغبة الجنسية القوية أي الشبق يمكن أن تكون خطيئة ، والجنس يمكن أن يكون سهلًا جدًا ومتفشيًا جدًا في لندن إيليوت ، لكن الفِعل ما زال مفضّلًا على عدم الفِعل . والشيء الذي يُحتاج إليهِ هو الجنس الذي يُنتج الحياة ، الذي يُجَدِّد ، الذي يستعيد – الجنس ، بعبارة أخرى ، هو ذلك الذي ليس «عَقيمًا» أو «مُعَقّمًا» .

ولا يفوتنا أن نذكر أنّ إحدى الثيمات في القصيدة هو الحب ، فالاسنادات والإشارات الى «تريستان وايزولد» في «دفن الموتى» الى كيلوبترا في «لعبة الشطرنج» ، والى قصة تريوس وفيلوميلا يوحي بذلك الحب ، في «الأرض اليباب» هو غالبًا مُدَمِّر . تريستان وكيلوبترا يموتان، بينما تريوس يغتصب فيلوميلا ، وحتى الحب تجاه البنت المكحّلة يؤدي بالشاعر الى رؤية ومعرفة «لا شيء» .

ونأتي الآن الى موضوعة الماء ، «فالأرض اليباب» ينقصها الماء ؛ الماء يَعِد بالولادة الجديدة . وفي الوقت نفسه ، مع ذلك ، الماء يمكن أن يجلب الموت . إليوت يرى بطاقة الملّاح الفينيقي الغريق ، ولاحقًا يُعَنْون القسم الرابع لقصيدتهِ بعد تخويل مدام سوسوسترس بأنّه يخاف «الموت بالماء» . وعندما يصل المطر أخيرًا عند نهاية القصيدة ، فإنّه يفترض ويوحي بتنظيف وتطهير الخطايا ، غسل الآثام والذنوب ، وبداية مستقبل جديد ؛ ومن ناحية ثانية ، يأتي معه الرعد ، ولذلك ربّما البرق . وهذا الأخير يمكن أن يُنذِر بالنار ؛ هكذا ، «عظة النار» و «مقالة الرعد» ليستا حتى الآن منتزعتين في التصوير ، مرتبطتان بواسطة قوى الطبيعة المضرّة بشدة . ونصل بعد كل ما تقدّم الى الموضوعة الأخيرة وهي التاريخ . إنّ إليوت يفترض بأن التاريخ دائرة متكررة . وعندما يدعو الى ستيتسون ، فإن الحرب القرطاجية تقوم مقام الحرب العالمية الأولى ، هذا التبديل هو حاسم لأنه صادم . في الوقت الذي كتب فيه إليوت «الأرض اليباب» كانت الحرب العالمية الأولى بالتأكيد أولى – «الحرب الكبرى» لأولئك الذين شهدوها . لم يكن هناك غيرها للمقارنة معها في التاريخ . الحساسية السائدة كانت أحد التغيّرات العميقة ؛ العالم كان قد تحوّل رأسًا على عقب والآن ، مع التقدم السريع للتكنولوجيا ، حركات المجتمعات ، والثورات الراديكالية في الفنون ، العلوم ، والفلسفة ، فإنّ تاريخ الجنس البشري قد وصل الى نقطة تحوّل .

إليوت يعدِّل هذه الفرضية ، مجادلًا في ذلك أنّه كلما تغيّرت الاشياء ، كلما بقيت الشيء نفسه. إنه يربط علاقة غرامية قذرة وخسيسة بين طابعة (على الآلة الكاتبة) وبين رجل صغير السن مع سوفوكليس عبر شخص تريسياس ؛ إنّه يستبدل سطرًا من عمل مارﭬﻴﻞ الأدبي «الى خليلته الخجولة» بالسطر «صوت القرون والمحركات» ؛ إنّه يستحضر دانتي على جسر لندن حديث الأيام ، مستحثًا بمستبدلِ حركة المرور ؛ إنّه يلاحظ الطابور أو الصف الطويل لبار على شارع نهر الثيمز الأسفل المحتشد بالصيادين . المُسْتِكّنين على القرون الوسطى ، يختلطون بعصر النهضة ، ويعبرون الطرق مع قرون الزمن الآتية . إنّ التاريخ يصبح شيئًا ضبابيًا غير واضح . إنّ قصيدة إليوت هذه تشبه شارعًا في روما أو أثينا ؛ طبقة واحدة من التاريخ فوق أخرى فوق أخرى .

وخلاصة القول أنّ رؤية إليوت للعالم واتضاع إمكانيات أرضه الخربة ، تتطابق مع المرحلة التي تلت الحرب العالمية الأولى ، وبذلك يكون اليوت الناطق الشعري بإسم ذلك الجيل ، ففي «الأرض اليباب»  يقارن إليوت علانيةً أمجاد الماضي بقذارة الحاضر . 
 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق