الحداثة بسياقها الفنّي أو الثقافي الى أُبّهة تغييرات وتطوّرات الفترة الحديثة
06/07/2020 - 07:08:25 am

الحداثة بسياقها الفنّي أو الثقافي الى أُبّهة تغييرات وتطوّرات الفترة الحديثة

بقلم : الدكتور منير توما كفرياسيف

 

مع أنّه في أحيان كثيرة يتم وصف الحداثة (modernism) بأنّها جمالية أحادية منفردة أو حركة ، فإنّها أوسع بكثير من مثل هذا الوصف المفترض . إِنّها في الحقيقة موقف أو مجموعة من المعتقدات ؛ عقليّة محدّدة تقترح طريقة خاصة للنظر الى العالم ، وخصوصًا رد الفعل أو الإنشغال بمفهوم واسع للعصرنة (modernity) . إنَّ تعريفًا محدّدًا يعتمد على نوع التحديث موضع النقاش ، والذي يتراوح من سياق فني أو ثقافي ضيّق نسبيًا الى درع كاملة من التغييرات والتطورات الثقافية ، الاجتماعية ، السياسية ، الفلسفية ، العلمية – التي تصف وتميّز الفترة الحديثة .

إنّ مثل هذه التعريفات الواسعة والضيّقة ليست مستقلة . في السياق الغربي ، نرى أنَّ العصرنة في المفهوم الأوسع هو بالأكثر أو الأقل يُعَرَّف بالتحديد عن طريق القوى الفكرية ، العقلانية والعلمانية التي كانت نشطة وفعّالة منذ بداية عصر التنوير في القرن السابع عشر . ولقد كان هناك في القرنين التاسع عشر والعشرين ، سلسلة من التغيّرات الزلزالية في الفهم الانساني للعالم وموقعه فيه ، بمبادرة من انجازات ماركس ، داروين ، فرويد ، اينشتين وآخرين . لقد كان جزئيًا متعاطفًا ، أو متجاوبًا ، مع النظرة الجديدة التي رُسِمَت من قِبَل شخصيات بارزة تحويلية حيث أنَّ صورًا وأشكالًا ديناميكية برزت في العقود المبكرة للقرن العشرين . إن نشوب أفظع حرب مخيفة في التاريخ عام 1914 كان عاملًا مساعدًا حيويًا آخر في التفكير الحديث .

وعمومًا ، فإنّ الشكل الحديث للتاريخ قد اعتُبِر ثوريًا تقدميًا ومتقطّعًا . ووفقًا لذلك فقد مال الحداثيون الى رؤية أنفسهم ، غالبًا وبشكل تام حصريًا ، وكأنهم مُنشِئو الريادة الثقافية ، الإبداعيون ، المتطرفون ، المُتَحَدّون ، التجريبيون . إنّ الحداثة أيضًا مالت لأن تكون مرجعيتها ذاتية وأحيانًا انطوائية ، معتبرةً جهودها الخاصة وانجازاتها ذات قيمة على الإطلاق وجديرة بالاهتمام من جانبها ، بصرف النظر عن سياقات أوسع . في ضوء هذا ، فإنَّ التقدم يمكن أن يُرى كنهاية في ذاتها ، الفن كمجال مستقل ؛ وبالتالي ، فقد تمّ تفسير رؤية الحداثيين بأنهم يتابعون صرخة لم الشعت وحشد علماء جمال القرن التاسع عشر : «الفن من أجل الفن» ! بالتأكيد أنّ بعض الإلهام الفكري للحداثة يظهر أنّه قد جاء من النصف الثاني للقرن الماضي – من الشاعر والناقد الفرنسي شارل بودلير ، على سبيل المثال ، ومن زميلهِ الشاعر آرثر رامبو ، الذي كتب عام 1873 il faut être absolument moderne أي (يجب على الانسان أن يكون حديثًا على الاطلاق) .

في الفنون البصرية المرئية ، أحدثت قوى الحداثة نظامًا مُذهلًا من الابتداع في الأسلوب والحركات قبل وبعد بداية القرن العشرين ، بما فيه ما بعد الانطباعية ، التعبيرية ، التكعيبية ، الرمزية ، الحركة الدُّوامية (حركة فنيّة تجريدية معاصرة) ، الدادية ، المستقبلية ، والسُريالية . إنّ الإلهام وراء هذه المجموعات كانت مختلفة جدًا والاتجاه الذي اتخذته كان متنوعًا جدًا بحيث أنّه كان من الصعب التنوير ليكتّلهم معًا كحداثيين . إنّ جميع الفنّانين الحداثيين ، الى حد أكبر أو أقل ، كانوا يميلون الى هدم أو تجاهل المعايير والقواعد وتقاليد الماضي . مع هذا جاء تَصَوُّر جديد لوظيفة الفن ، ذلك الذي قدَّم تحدّيًا متطرفًا الى النظرة بالرجوع والعودة الى ارسطو والقدماء المتمثلة بأنّ الجمال والقيمة الجمالية تسكن أو تقيم في المحاكاة والتقليد ، بكونه مثالًا أعلى شجّع الواقعية والاعتقاد بأنّ عمل الفنّان كان ليعرض مرآة للطبيعة . إنّ رفض هذا المعتقد ، الذي كان مركزيًا لفهم الفن على مدى آلاف السنين ، قد بادر الى مسيرة تجاه التجريد ، الذي كان ليُميّز الكثير من تطوّر الفن خلال القرن العشرين .

إنّ الكاتب الروائي والشاعر الانجليزي د.ه.لورنس (D.H.Lawerence) كان قد قال : «يجب أن نكفّ عن طريقتنا المتمثلة في على وعلى وعلى ، من بداية الى نهاية ، ونسمح لِعقلنا في التحرك بدورات ، أو ننتقل هنا وهناك فوق مجموعة من الصور» .  إنَّ دعوة لورنس بأنّه يتوجب على الكتّاب أن يهجروا التقاليد الفيكتورية المُتعَبَة للسرد وتقسيم الزمن الى فترات (الكرونولوجيا) قد أُجيبت بإهتمام بالغ في الزمن الذي اعلن فيه دعوته هذه علم 1923 . وقبل ذلك بِعقد من الزمن ، عام 1922 ، كان لأدب الحداثة سَنَتُه المبشِّرة بالخير المتجسّدة بنشر (وإن كان ذلك موضع جدل) الروائع النثرية والشعرية : «يوليسيس» (رواية عوليس) لجيمس جويس ، و «الأرض اليباب» لِ.ت.س.إيليوت . إنّ قصيدة إليوت التي تبعت الى اليأس مع أنها قصيدة من الفكاهة السوداء ، هي فن تلصيقي (كولاج collage) من الصور المتشظية والاشارات الضمنية المركبة ، مُقَدَّمة في رسم مُتَغَيِّر الألوان في منظور مُتَنقِّل ووجهات نظر متحوِّلة . أما رواية جويس ، في غضون ذلك ، فإنّها تستخدم تقنيات المونولوج الداخلي وتيار الوعي ليدير استكشافًا غير مسبوق لأفكار شخصياته الداخلية ، وذكرياتهم وتصوراتهم .

لقد تمَّ الإحساس والشعور بقوى الحداثة بين الملحنين والمؤلفين الموسيقيين ، كما هو الحال مع الرسّامين ، ولكن لم يُزَوَّد باتجاه مؤكد أو إجماع في وجهة النظر . إنَّ التطوُّر الوحيد الأكثر أهمية ، في استعادة الأحداث الماضية والتأمل فيها على الأقل ، قد حدث في العقد الأول من القرن العشرين ، عندما أقدم على تجريب أو اختبار علمي بعد تشديد النبرة والوهن (عند التلفظ بمقطع) ودلَّ على وقفة عصرية بأفكار تناغم الأصوات وتنافرها التي كانت القواعد المقبولة للموسيقا لعدة قرون . إنَّ النجاح الأكبر في خلق «صدمة الجديد» ، على أية حال ، تمَّ تحقيقه في 29 أيار عام 1913 ، عندما قدّم إِﯦﭼﻮر ستراﭬﻨﺴﻜﻲ عرض البالية الأوّل المسمى (شعيرة أو طقس الربيع) في باريس . وقد كان رد الفعل عنيفًا تجاه البدائية الخام الفجّة للموسيقا ، بإيقاعاتها النشطة الصارمة والتوزيع الموسيقي الصاخب ، الذي تلاه شغب بوصفهِ نتيجة لذلك . إنّ الصراع بين الابتداع العصري الحديث والذوق الشعبي الذي ما زال مُعَلَّقًا بحيث أنه الى هذا اليوم قد بقي جاريًا أثناء الحركة .

في فن عمارة القرن العشرين ، كان مصطلح الحداثة أكثر تكاملًا ومركزيةً ومتماسكًا أكثر ممّا في مناطق أخرى ، صائرًا بالخصوص متماثلًا مع الحركة المعروفة بِ «العصري الدولي» (أو الأسلوب الدولي) . وبشكل افتراضي فإنَّ تصميمًا عقلانيًا ووظيفيًا ، موصولًا برفض دوغماتي لكل زخرفة ، وفرة وأشياء زائدة غير ضرورية ، ومرجعية تاريخية ، أدّت وافضت على نحو نموذجي الى مبانٍ نظيفة ، بيضاء شبيهة بالصندوق ، مع سطوح مستوية وشبابيك مجرّدة عارية . وقد كانت النتيجة وظيفية ، منطقية ، تصميمًا موضوعيًا استغلّ البناء المُصَنّع ، المواد الحديثة ومركبات مُنْتَجَة على نطاق واسع . إنّ حركة العصري الدولي آنفة الذكر ، سبق وأصبحت طاغية ومسيطرة بين المهندسين المعماريين التقدميين في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي ، أصبحت مألوفة في فترة إعادة البناء بعد الحرب . ومن حيث أنَّ الممتثلين والمجانسين تموضعوا في ايدي غير واسعة الخيال ، فإنَّ فن العمارة الحداثي اصبح بشكل متزايد منفصلًا ومبتعدًا وغير مستجيبٍ للحاجات الانسانية الحقيقية . إنَّ عدد المباني الحداثية المفتاحية التي هُدمت وأزيلت في النصف الثاني من القرن هو انعكاس الى المدى الذي فشلت فيه الحركة للتعايش مع وعود أنبيائها .

ومما ورد في السطور السابقة ، نجد أنه بإمكاننا أن نختم بما قاله الشاعر الفرنسي الكبير بودلير عام 1869 بأنّ الحداثة أو العَصْرَنة هي سريعة الزوال ، عابرة ، طارئة ؛ إنّها نصف واحد للفن ، النصف الآخر وجوده هو الأبدي والراسخ . 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق