رواية «المحاكمة» لفرانز كافكا كَمَعْلَم للفلسفة الوجودية
27/01/2020 - 10:49:43 am

رواية «المحاكمة» لفرانز كافكا كَمَعْلَم للفلسفة الوجودية

بقلم : الدكتور منير توما - كفرياسيف

رواية «المحاكمة» وتُتَرْجم أيضًا «القضية» (بالألمانية (Der Prozess وهي رواية من تأليف الكاتب التشيكي فرانس كافكا حيث كُتبَتْ خلال الشهور المبكّرة لحرب ٍ تجرِّد من الصفات أو من الشخصية الانسانية ، وتعكس تأمُّل كافكا حيال تأثيرات التَغَرُّب والنفور في المجتمع الحديث الذي ما زال يتم ارجاعه الى قرن ٍ مضى . إنّ هذه الأمور المسكونة بروح الوجودية الكلاسيكية تقدم رؤيا كئيبة لكنها قهرية لما هو أن يكون إنسانيًا . إنّ إحساس فرانس كافكا بالغربة والتغرّب قد نبع الى حدٍ كبير من العالم الذي كان يعيش فيه . فقد ولد كافكا في براغ ، وكان تشيكيًا في الامبراطورية النمساوية ، يتكلم الألمانية بين السكّان التشيك ، وكان يهوديًا بين الألمان، بالاضافة الى كونه نباتيًا . وفي سنة 1914 ، عندما بدأ بكتابة رواية «المحاكمة» هذهِ ،  كان قد ترك للتوّ بيت العائلة وسكن لوحده .

في رواية «المحاكمة» يقدِّم كافكا (1924-1883) كل عناصر الكابوس الكامل _ الوضع المُحَيِّر ، مكان سكن غير مألوف ، متاهة من الممرّات والغرف ، تهديد لا إسم له ، عدم القدرة على الفعل ، كل الأشياء محتوم أن تقود الى مصيبة أو كارثة . إنّ بطل الرواية المدعو جوزيف ك ، يتمّ اعتقاله ، مع أنَّ ك ، ولا القارئ يعلم ما هي الجريمة المفترض أنَّ ك ، قد ارتكبها . إنَّ معظم الرواية يستغرق بكثيرها وقليلها الجهود العبثية التي يبذلها جوزيف ك ، كي يسيطر ويتحكم بوضعهِ الذي آل إليه متناولًا محكمة القانون التي ستحاكمه . وفي النهاية ، يقبل بمصيرهِ الذي لا يمكن اجتنابه ، والذي هو الموت . إنّه لا يستطيع أن يقهر القدر أو الضعف الانساني .

إنّ رواية «المحاكمة» يُمكن أن تُفهَم على عدة مستويات . فعلى الصعيد السطحي ، إنها هجاء أي ساتيرا (satire) على بيروقراطية آلية الدولة . فمن السهل الموافقة على املاءات الحكومة من أن تتحدّاها . وفي اللغة الألمانية الأصلية ، فإنَّ العنوان الذي تحمله الرواية  (Der Prozess) يحمل معنيين معًا ، الأوّل محاكمة قانونية ، والثاني عملية (process) . إنَّ بحث بطل الرواية جوزيف ك ، عن تفسيرات للأمر الذي تعرّض له يمكن أن يُرى كمجاز أو استعارة للحياة ، عملية العيش ، وبالتالي التقدّم المحتوم لا محالة نحو الموت . إنها نظرة يائسة ومنحرفة ، لكنّ جهود ك ، للحصول على توضيح لوضعهِ تعكس محاولات الوجوديين لإيجاد الحرية والمعنى في عالم ٍ سخيف منافٍ للعقل لا منطقي .

إنَّ ك ، يبحث عن المساعدة والراحة من مصادر متنوعة : من حكم القانون ، في شخص المحامي هَلْد ؛ من الفنون ، في الرّسام (تيتوريلي) ؛ من الجنس والرفقة والعِشرة ، مع (ليني) ونساء أخريات ؛ من الدين / مُجَسَّدًا في قسيس السجن ؛ ومن دائرة العائلة ، في صورة عمه كارل . ولكن لم يجد فيهم فائدة كثيرًا ، وهكذا فإنّ ك ، يجب أن يقبل بذلك ، كالوجوديين ، بأنّه وحده المسؤول أن يعيش حياة موثوقة ذات معنى . وبدلًا من ذلك ، يذهب بوداعة الى موتهِ في الفصل الأخير ، مُرَوَّضًا وخاضعًا لإرادة المحكمة ، مثلما يقول لافظًا انفاسه الأخيرة بالموت «كالكلب» .

وعلى مستوى أعمق ، فإنَّ النظام القضائي في رواية «المحاكمة» يمكن أن نراه تمثيلًا للروحية أو الروحانية . إنّ اعتقال ك ، هو دعوة لوجود أكثر روحانية بحيث يجعله يترك وينجو منسحبًا من روتينه الأرضي كموظف بنك رسمي . كذلك فإنّ مقابلاتهِ في خلال الكتاب هي فُرَص كي يسيطر ويتحكّم بحياتهِ الروحية . لكن هناك القليل من الشك بأنَّه مذنب ، خَطئ أي ارتكب ذنبًا أو خطيئةً : من الجائز أنّ جريمته ببساطة هي في فقدانه الايمان بذاته الروحية . 

وفي ضوء التفاصيل الواردة آنفًا ، يمكن القول أنّ رواية «المحاكمة» ، هي كتاب مركّب ، قاتم ، ومن المعروف أنَّ كافكا لم يكمل كتابه هذا وبقي غير مكتمل في حياتهِ . لكنّ صديقه ماكس برود قام بتحريره بغية نشره ِ عام 1925 ، أي بعد سنة من وفاة كافكا . ولم ينشر باللغة الانجليزية إلّا عام 1937 . لكن الوجودية (existentialism) نمت وحازت الشهرة والشعبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، مُؤثِرةً في الفن ، الأدب ، وعلم النفس . ومن هنا ، فإنه في عالم سخيف عبثي مُنَفِّر بغربتهِ ، يكون كافكا بقصتهِ الروائية هذه حول المسؤولية الفردية قد يُرى ويُشكِّل مَعْلَمًا من معالِم الفلسفة الوجودية .

ولا بُدّ لنا في الختام أن نشير الى أنّ الوجودية مذهب فلسفي ، ظهر في الفلسفة الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى في ألمانيا ، وبعدها في فرنسا. وبعد الحرب العالمية الثانية في بلاد

أخرى ، من بينها الولايات المتحدة الأميركية . ومن الأمور التي تميّزت بها الوجودية من غيرها من الفلسفات ، هو غوصها في الحياة العاطفية أو الباطنية ، التي لم تكترث لها بقية الفلسفات من قبل ، فالوجودية تحاول أن تكشف الوجود عن طريق الحياة العاطفية : القلق ، اليأس ، الخوف من الموت ، والإهمال وغيرها من المشاعر المؤلمة التعيسة ، وبالتالي فإنّ هذه المعاني قد وجدنا تجسيدًا لها في رواية «المحاكمة» .
 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق