ستبكي لو كنت صخرا..‏ قصة واقعية مؤثرة جداً !!
2009-10-10 12:17:10
لم أكن جاوزت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أوّل أبنائي.. ما زلت أذكر تلك الليلة .. بقيت إلى آخر الليل مع الشّلةفي إحدى الاستراحات.. كانت سهرة مليئة بالكلام الفارغ.. بل بالغيبة والتعليقات المحرمة... كنت أنا الذي أتولى في الغالب إضحاكهم.. وغيبة الناس.. وهم يضحكون.
 أذكر ليلتها أنّي أضحكتهم كثيراً.. كنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد.. بإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه.. أجل كنت أسخر من هذا وذاك... لم يسلم أحد منّي أحد حتى أصحابي..صار بعض الناس يتجنّبني كي يسلم من لساني.
أذكر أني تلك الليلة سخرت منأعمى رأيته يتسوّل في السّوق... والأدهى أنّي وضعت قدمي أمامه فتعثّر وسقط يتلفت برأسه لا يدري ما يقول.. وانطلقت ضحكتي تدوي في السّوق..
عدت إلى بيتي متأخراًكالعادة.. وجدت زوجتي في انتظاري.. كانت في حالة يرثى لها.. قالت بصوت متهدج:راشد... أين كنتَ ؟
قلت ساخراً: في المريخ.. عندأصحابي بالطبع ......
كان الإعياء ظاهراً عليها..قالت والعبرة تخنقها: راشد… أنا تعبة جداً ..... الظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكا ..
سقطت دمعة صامته على خدها..أحسست أنّي أهملت زوجتي.. كان المفروض أن أهتم بها وأقلّل من سهراتي.... خاصة أنّهافي شهرها التاسع .
حملتها إلى المستشفى بسرعة..دخلت غرفة الولادة... جعلت تقاسي الآلام ساعات طوال.. كنت أنتظر ولادتها بفارغ الصبر... تعسرت ولادتها.. فانتظرت طويلاً حتى تعبت.. فذهبت إلى البيت وتركت رقمهاتفي عندهم ليبشروني.
 بعد ساعة.. اتصلوا بي ليزفوالي نبأ قدوم سالم ذهبت إلى المستشفى فوراً.. أول ما رأوني أسأل عن غرفتها.. طلبوامنّي مراجعة الطبيبة التي أشرفت على ولادة زوجتي.
 صرختُ بهم: أيُّ طبيبة ؟!المهم أن أرى ابني سالم.
قالوا، أولاً راجع الطبيبة ..
دخلت على الطبيبة. كلمتني عن المصائب ...... والرضى بالأقدار ثم قالت: ولدك به تشوه شديد في عينيه ويبدوا أنهفاقد البصر !!
 خفضت رأسي.. وأنا أدافععبراتي.. تذكّرت ذاك المتسوّل الأعمى الذي دفعته في السوق وأضحكت عليه الناس.
 سبحان الله كما تدين تدان !بقيت واجماً قليلاً. لا أدري ماذا أقول.. ثم تذكرت زوجتي وولدي .. فشكرت الطبيبةعلى لطفها ومضيت لأرى زوجتي ..
 لم تحزن زوجتي.. كانت مؤمنة بقضاء الله.. راضية. طالما نصحتني أن أكف عن الاستهزاء بالناس..
كانت تردد دائماً،لا تغتب الناس ..
خرجنا من المستشفى، وخرج سالم معنا. في الحقيقة، لم أكن أهتم به كثيراً. اعتبرته غير موجود في المنزل. حين يشتدبكاؤه أهرب إلى الصالة لأنام فيها. كانت زوجتي تهتم به كثيراً، وتحبّه كثيراً. أماأنا فلم أكن أكرهه، لكني لم أستطع أن أحبّه !
 كبر سالم.. بدأ يحبو.. كانتحبوته غريبة.. قارب عمره السنة فبدأ يحاول المشي.. فاكتشفنا أنّه أعرج. أصبح ثقيلاًعلى نفسي أكثر. أنجبت زوجتي بعده عمر وخالداً.
 مرّت السنوات وكبر سالم،وكبر أخواه. كنت لا أحب الجلوس في البيت. دائماً مع أصحابي. في الحقيقة كنت كاللعبةفي أيديهم ..
لم تيأس زوجتي من إصلاحي. كانت تدعو لي دائماً بالهداية.لم تغضب من تصرّفاتي الطائشة، لكنها كانت تحزن كثيراً إذا رأت إهمالي لسالمواهتمامي بباقي إخوته.
كبر سالم وكبُر معه همي. لمأمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحدى المدارس الخاصة بالمعاقين. لم أكن أحس بمرورالسنوات. أيّامي سواء . عمل ونوم وطعام وسهر.
في يوم جمعة، استيقظت الساعةالحادية عشر ظهراً. ما يزال الوقت مبكراً بالنسبة لي. كنت مدعواً إلى وليمة. لبستوتعطّرت وهممت بالخروج. مررت بصالة المنزل فاستوقفني منظر سالم. كان يبكي بحرقة!
إنّها المرّة الأولى التيأنتبه فيها إلى سالم يبكي مذ كان طفلاً. عشر سنوات مضت، لم ألتفت إليه. حاولت أنأتجاهله فلم أحتمل. كنت أسمع صوته ينادي أمه وأنا في الغرفة. التفت ... ثم اقتربتمنه. قلت: سالم! لماذا تبكي؟!
حين سمع صوتي توقّف عن البكاء.فلما شعر بقربي، بدأ يتحسّس ما حوله بيديه الصغيرتين. ما بِه يا ترى؟! اكتشفت أنهيحاول الابتعاد عني!! وكأنه يقول: الآن أحسست بي. أين أنت منذ عشر سنوات ؟! تبعته ... كان قد دخل غرفته. رفض أن يخبرني في البداية سبب بكائه. حاولت التلطف معه ..بدأ سالم يبين سبب بكائه، وأنا أستمع إليه وأنتفض.
أتدري ما السبب!! تأخّر عليهأخوه عمر، الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد. ولأنها صلاة جمعة، خاف ألاّ يجد مكاناًفي الصف الأوّل. نادى عمر.. ونادى والدته.. ولكن لا مجيب.. فبكى.
أخذت أنظر إلى الدموع تتسرب منعينيه المكفوفتين. لم أستطع أن أتحمل بقية كلامه. وضعت يدي على فمه وقلت: لذلك بكيتيا سالم !!..
قال: نعم ...
نسيت أصحابي، ونسيت الوليمةوقلت: سالم لا تحزن هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد؟
قال: أكيد عمر ..... لكنهيتأخر دائماً ..
قلت: لا .. بل أنا سأذهب بك ..
دهش سالم .. لم يصدّق. ظنّأنّي أسخر منه. استعبر ثم بكى. مسحت دموعه بيدي وأمسكت يده. أردت أن أوصلهبالسيّارة رفض قائلاً: المسجد قريب... أريد أن أخطو إلى المسجد - إي والله قال ليذلك.
لا أذكر متى كانت آخر مرّةدخلت فيها المسجد، لكنها المرّة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والنّدم على مافرّطته طوال السنوات الماضية. كان المسجد مليئاً بالمصلّين، إلاّ أنّي وجدت لسالم مكاناً في الصف الأوّل. استمعنا لخطبة الجمعة معاً وصلى بجانبي... بل في الحقيقةأنا صليت بجانبه ..
بعد انتهاء الصلاة طلب منّي سالم مصحفاً. استغربت!! كيف سيقرأ وهو أعمى؟ كدت أن أتجاهل طلبه، لكني جاملته خوفاًمن جرح مشاعره. ناولته المصحف ... طلب منّي أن أفتح المصحف على سورة الكهف. أخذتأقلب الصفحات تارة وأنظر في الفهرس تارة ... حتى وجدتها.
أخذ مني المصحف ثم وضعه أمامهوبدأ في قراءة السورة .... وعيناه مغمضتان ... يا الله !! إنّه يحفظ سورة الكهفكاملة!!
خجلت من نفسي. أمسكت مصحفاً ... أحسست برعشة في أوصالي... قرأت وقرأت.... دعوت الله أن يغفر لي ويهديني. لمأستطع الاحتمال ..... فبدأت أبكي كالأطفال. كان بعض الناس لا يزال في المسجد يصليالسنة ... خجلت منهم فحاولت أن أكتم بكائي. تحول البكاء إلى نشيج وشهيق ...
لم أشعر إلا ّ بيد صغيرة تتلمس وجهي ثم تمسح عنّي دموعي. إنه سالم !! ضممته إلى صدري... نظرت إليه. قلت في نفسي...لست أنت الأعمى بل أنا الأعمى، حين انسقت وراء فساق يجرونني إلى النار.
عدنا إلى المنزل. كانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم، لكن قلقها تحوّل إلى دموع حين علمت أنّي صلّيت الجمعة معسالم ..
من ذلك اليوم لم تفتني صلاةجماعة في المسجد. هجرت رفقاء السوء . وأصبحت لي رفقة خيّرة عرفتها في المسجد. ذقت طعم الإيمان معهم. عرفت منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا. لم أفوّت حلقة ذكر أو صلاةالوتر. ختمت القرآن عدّة مرّات في شهر. رطّبت لساني بالذكر لعلّ الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من النّاس. أحسست أنّي أكثر قرباً من أسرتي. اختفت نظرات الخوف والشفقةالتي كانت تطل من عيون زوجتي. الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم. من يراه يظنّه ملك الدنيا وما فيها. حمدت الله
كثيراً على نعمه.
ذات يوم ... قرر أصحابي الصالحون أن يتوجّهوا إلى أحدى المناطق البعيدة للدعوة. تردّدت في الذهاب.
استخرت الله واستشرت زوجتي. توقعت أنها سترفض... لكن حدث العكس !
فرحت كثيراً، بل شجّعتني. فلقد كانت تراني في السابق أسافر دون استشارتها فسقاً وفجوراً.
توجهت إلى سالم. أخبرته أنيمسافر فضمني بذراعيه الصغيرين مودعاً...
تغيّبت عن البيت ثلاثة أشهرونصف، كنت خلال تلك الفترة أتصل كلّما سنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدّث أبنائي. اشتقت إليهم كثيراً ..... آآآه كم اشتقت إلى سالم !! تمنّيت سماع صوته... هو الوحيد الذيلم يحدّثني منذ سافرت. إمّا أن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة اتصالي بهم.
كلّما حدّثت زوجتي عن شوقيإليه، كانت تضحك فرحاً وبشراً، إلاّ آخر مرّة هاتفتها فيها. لم أسمع ضحكتهاالمتوقّعة. تغيّر صوتها ..
قلت لها: أبلغي سلامي لسالم،فقالت: إن شاء الله ... وسكتت...
أخيراً عدت إلى المنزل. طرقت الباب.. تمنّيت أن يفتح لي سالم، لكن فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة منعمره. حملته بينذراعي وهو يصرخ: بابا .. بابا .. لا أدري لماذا انقبض صدري حيندخلت البيت.
استعذت بالله من الشيطانالرجيم ..
أقبلت إليّ زوجتي ... كانوجهها متغيراً. كأنها تتصنع الفرح.
تأمّلتها جيداً ثم سألتها: مابكِ؟
قالت: لا شيء ..
فجأة تذكّرت سالماً فقلت ..أين سالم ؟
خفضت رأسها. لم تجب. سقطتدمعات حارة على خديها...
صرخت بها ... سالم! أين سالم .؟
لم أسمع حينها سوى صوت ابنيخالد يقول بلغته: بابا .... ثالم لاح الجنّة ... عند الله...
لم تتحمل زوجتي الموقف. أجهشتبالبكاء. كادت أن تسقط على الأرض، فخرجت من الغرفة.
عرفت بعدها أن سالم أصابتهحمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعين فأخذته زوجتي إلى المستشفى .. فاشتدت عليه الحمى ولمتفارقه ... حين فارقت روحه جسده ..
إذا ضاقت عليك الأرض بما رحبت،وضاقت عليك نفسك بما حملت فاهتف ... يا الله
إذا بارت الحيل، وضاقت السبل،وانتهت الآمال، وتقطعت الحبال، نادي ... يا الله
لقد اراد الله سبحانه وتعالى ان يهدي والد سالم على يدسالم قبل موت سالم
فيا الله ما ارحمك
لا اله الا الله رب السمواتالسبع ورب العرش العظيم
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق