ألرجل الذي فقد ظله- قصة الدكتورمحمد حسن الشغري – كفرياسيف                            
22/03/2019 - 12:53:58 pm

عاش غسان في بيت يضرب فيه المثل بالكرم والجود على الرغم من ان حالتهم المادية لم تكن فوق المتوسطة الا بقليل فوالده  كان جماَلا ويسافر من بلدة الى أخرى ومن قرية الى سواها من اجل العمل وبحثا عنه وطلب الرزق،وكان الكثيرون يفضلونه عن غيره من الجمَالة ومعروف عنه الأمانة والإخلاص في العمل ولا يمكن أن ينقص الحمل الذي يضعه على جماله ولو بحفنة من القمح،بل كان يكتفي بما يحصل عليه جراء عمله  ونقل الغلَة من مكان الى آخر وفي مختلف فصول السنة والاوقات وعندما كان الوقت حرجا ولا تتوفر أجرة النقلة،كان ينتظر الشخص المدين الى ان يفرجها ربنا عليه ويعطيه حقه،هذا الحق الذي لم يكن ينتقص منه شيء،بل أكثر من ذلك كان يتحمل أجرة الجمل عندما لا يتوفر الاجر من المزارع.كانت فترة عصيبة عاشها الناس في بلدته،لكنه بفضل اجتهاده  وتدبيره في العمل ومحبة الناس الشديدة له وفي طلبه ان يعمل لصالحهم وينقل غلتهم وتدبير زوجته لشؤون المنزل لما وصلا الى ما وصل اليه واستطاع ان يشتري جملا وآخرا حتى اصبح لديه ثلاثة من الجمال،وأحيانا كان ينزل الى السوق ويتبخن الأسعار للجمال ،وان وجد السعر مناسبا للبيع،باع ويشتري في ما بعد آخر وهكذا وفَر النقود واشترى قطعة ارض والتي كان سعرها ليس غاليا لانهم كانوا يقولون  بأن سعر دونم الزيتون "بتراب المصاري".وعندما كان يذهب الى السوق ولم يتمكن من بيع الجمل،يعود الى البيت ومعه أي واحد من التجار يدعوه ليتناول واياه وجبة طعام الغذاء والناس ماذا كان لديها؟ معظمهم يعمل في الزراعة وجمع الزيتون وفي فترة الحصاد كل يذهب الى بيدره وحقله وارضه يجمع ويحصد ويقطف ويغمَر ويكتَ السمسم بعد أن تكون الضمم قد نشفت على السطح ويحصد سنابل القمح ويضعه على البيدر ليدرسه  ويستخرج القمح ويعزل التبن لوحده ليستعمل للدواب،ويحلش الكرسنة والعدس والحمص ويضع كل شيء في مكانه،وكانت الأوضاع الاقتصادية غير مريحة والنقود والسيولة شبه معدومة مع الناس

كان  غسان كعادته عندما يكون معه ضيف يحاول  أن يسمع زوجته بأية طريقة أن بصحبته شخص غريب أو ضيف  ويتوجب عليها الاستعداد وترحب به وبضيفه..أهلا وسهلا بضيفنا العزيز وفي أقل من  نصف ساعة يكون الطعام جاهزا ان كان طعام ألافطار،وهو عبارة عن البيض المقلي بلدي تقول زوجة غسان  أنهم من تحت دجاجاتهم والحليب الذي لتوه حلبته من عنزتهم البيضاء وباذنجان مقلي وسلطة عربية مع كثير من النعناع  والبصل الأخضر تتبعهم بغلاية من القهوة ليروَقوا دماغهم وابريق الماء الذي تعودت أن تضعه في الهواء الطلق لتبقى المياه التي في داخله باردة، وكعادتها تحضَر علبة التتن والقداحة  والشحاطة على الرغم من أن زوجها من غير المدخنين،لكنها عادة اكرام الضيف التي درجت عليها عند أهلها وعند زوجها.

كان  غسان محطَ  أنظار العديد من انظار أهالي القرية،بل نستطيع القول  حسد قليل في البداية وكثير في ما بعد ذلك،خصوصا بعد أن أشترى مارس أرض  بثمن بخس اضطر صاحبه الى بيعه لاسباب مالية،وقال آخرون أنه يريد أن يسكن خارج القرية واصبح ليس بحاجة الى ألارض  على الرغم من أن كثيرين حاولوا إقناعه بعدم البيع،فالارض والعرض صنوان،لكن هذا ما حصل ومع الوقت باع غسان المارس واشترى قطعة زيتون عمَاري وقريبة من مكان سكناه،وفي تلك الفترة لم يكن هنالك تفكير وفي  أية قسائم يسمح البناء عليها،بل كل شيء مسموح وهكذا كوَن غسان أملاكا له وقالت له زوجته:أنه حان الوقت أن يستريح ويبيع الجمل الذي تبقى عنده ويوَفر ثمنه لاي شيء فهذا ابننا قارب على سن العشرين وفي وقتنا قالت زوجته يتوجب علينا أن نفتش له على  بنت حلال تستره ويسترها وما في أحسن من ابنة عمه صفاء زوجة له فهي تصغره بخمس سنوات قالت زوجته وما فيها شيء ان كانت هي بهذا السن،وشاءت الظروف أن دارت الحرب بين اليهود والعرب في فلسطين واحتلت القوات اليهودية قرى عربية وطرد وشرد منها ألاهالي  ومنهم من قتل ومنهم من لاقى حتفه في ظروف غامضة وهرب الناس من بيوتهم لان الاهالي خافوا على حياتهم بعد ما سمعوا ما حلَ بأهالي دير ياسين والمجزرة التي ارتكبها اليهود بحق السكان الفلسطينيين وما جرى لاهالي عمقا والبروة وكويكات ومنطقة ترشيحا.

في يوم ماطر جاءه أحد ألاشخاص وطلب منه  نقل حنطة من احدى القرى التي احتلها اليهود  الى قرية أخرى،في البداية لم يرق له ألاقتراح ولم يلق ترحيبا  لكن بعد ألالحاح رضي وسال ابنه ان كان على استعداد لاخذ الجمل ونقل الغلَة  فأجابه على الفور:تكرم يا والدي واحنا من وينتا بنرفض لك طلب؟؟باذن الله ستجد البضاعة  عنده مسافة السكة،فترَضى عليه والده كثيرا وتمنى له كل الخير والعودة بالسلامة وأوصاه أن ينتبه  على الطرقات لان أولاد الحرام كثار خاصة في مثل هذه الظروف.

امتطى ابنه حماره  والتي كان رسن الجمل مربوطا بمؤخرة الجلال وسلَم أمره الى ألله  وذكر الرب مرارا وتكرارا وتيسَر ووصل الى القرية حيث قال لهم صاحب القمح فوجد أكياسا كثيرة من القمح  موضوعة على ارض الدار وحاول ان يحَمل بعض من هذه الاكياس على ظهر الجمل فوجد صعوبة ما،لكنه في النهاية حمَلها  على ظهر الجمل ووضع كيسا صغيرا من كل ناحية في جلال الحمارة واراد ان يركب عليها،ونهز الجمل ليستعَد للسيرفجأة سمع اطلاق رصاص فذهل جدا وبدأ يحسب مئة حساب لوضع غريب كهذا،عندها وصل مسلحان  لم يعرفهما واقتاداه الى زاوية في الغرفة،وبعد أن تعرَفوا عليه وتأكدوابانه ابن عرب أردوه قتيلا وتركوه غارقا في دمه،لكنهم لم يسرقوا القمح أو الجمل،بل ضربوا الجمل على مؤخرته ونهروا الحمارة وتركوهما يسيران في الطريق ليعودوا الى قريتهم.

انتظر  غسان عودة ولده ساعة واثنتان وثلاث ساعات لكن عبثا لكن ها هي الطلائع وصلت والجمل عليه ألاكياس تقوده الحمارة والتي هي عادة ما تقود الجمل ان لم يكن صاحبه معه فهي تعرف البيت وعندما تبين له أن الجمل والحمارة وصلا دون ان يكون ابنه معهم ضرب يدا بيد وقال:يا باطل راح الولد!!وأجهش بالبكاء وبصورة هستيرية وحاولت زوجته أن تهدئ من روعه وتقول له:انتظر انتظر حتى نعرف القصة وقليلا فقليلا تناول الناس المجتمعون الخبروبدأوا بالقول ماذا بالإمكان ان يفعلوا؟؟أو ليش تنوَ بعت ابنه لاحضار القمح؟من هذه القرية التي احتلها اليهود؟وطردوا وشردوا أهلها منها؟وعملوا الذي عملوه باهلها قبل تشريدهم خاصة مع الذين رفضوا النزوح والطرد،لكن ما العمل قال أحد الجيران:لا توجد أسباب تستدعي اللوم لان اللوم اصعب وأقسى من التذنيب !فقال غسان :يا ناس  اسمعوا لقد أرسلت ابني والجمل ليس طمعا في المال أو انتهاز واستغلال الفرص،بل لان صاحب القمح رجل نحن نعرفه وهو صاحبنا وصاحب القمح حضر وطلب منَي احضار القمح وأنا لست معتادا على أن أفشَل كل من يتوجه اليَ طالبا المساعدة.الرجل كان لتوه قد انتهى من حصاد ارضه وجمع القمح والشعير ووضعهم في ألاكياس،وإذ بقوات الاحتلال تغزوا القرية وتطرد ألاهالي منها وحاول الرجل أن يوفر مصدر رزق لعياله وقوت أولاده باحضار القمح والغلَة،فما هو الغلط في الموضوع؟ما الخطأ في ذلك ؟بماذا أذنبت؟ وتجمهر أهالي القرية في ساحة بيته أي بيت غسان وبدأت النساء تتوافد هي أيضا على البيت وكذا الأقارب وألام وألاخوات يولولن ويبكين بكاء مرا والبعض يقول ان شاء الله سليمة،وحضر الخوري الذي حاول أن يهدئ من روع ألاب والام والاقارب مشيرا ألرب معه..ان شاء الله سليمة...ان شاء ألله سليمة..ومضت ساعات وساعات دون ان يحضر ألابن فقال بعض الشباب:ان الواجب الوطني والاجتماعي يحتَم علينا  الذهاب الى هذه القرية والتي ذهب لاحضار القمح منها ولكي نفتش عنه ومعرفة ماذا حلَ به؟ وحلَ الليل وكان ليلا دامسا فقرر الشباب أنه مع بزوغ الفجر في اليوم التالي أن تنطلق مجموعة من الشباب من القرية ومعهم من يريد ويستطيع ذلك قاصدين قرية البروة للتفتيش عنه،ومع بزوغ الفجر انطلقت هذه المجموعة وحيث أن المسافة بين القريتين ليست طويلة،وقسم منهم قال لنقطع ألليات وصلوا وبدأوا في التفتيش عنه ليستقر بهم المطاف الى بيت له أعمدة وهناك وجدوه وجهه الى الحائط مرميَا بالرصاص ومن الخلف ولاحظوا بأن مقاومة ما قد حصلت فالمغدور قبضاي وزغورت،بدأوا بالبكاء والنحيب على ابن قريتهم المحبوب وأحضروه الى بيت والده على دابة،وعندما رأت أمه ابنها مسجَى على الدابة صاحت:يا باطل ابني مات وتذكرت ألنساء بان المغدور هو من خيرة شباب القرية وكانوا يقولون بانه بعد ان يجمع والده غلة الموسم ويدفع التجار له أجرة الجمال سيحضرون ويقولوا كلمة بحق الفتاة يعني "يتلسنوا"بأنه يريدها.يا حرام ألشوم شو صار لهذا الشاب؟؟!!ولم يبق أمام  القرية سوى التعبير عن استنكارهم وشجبهم لمثل هذا العمل البربري لابن قريتهم البار وكيف قتل بدم بارد ولا لاي سبب ارتكبه،وقام خوري القرية وطلب بقرع جرس الكنيسة معلنا الوفاة وعن موعد الدفن وتشييع الجثمان الطاهر وكذا فعل شيخ القرية في الجامع وخيَم الحزن وألاسى على الأهالي في هذه القرية الوادعة وفي باقي القرى العربية المجاورة التي سمعت بالخبر وبدأت وفودها تصل الى بيت العزاء حيث سجي الجثمان في الكنيسة في تابوت لم يكن قديم الصنع وان مثل هذا التابوت من الصعب ان يتوفر ثمنه لانه ليس رخيصا،والذي يصنعه ليس من أهالي أو من الذين يشتغلون في النجارة في القرية وكان الناس يوصون عليه عند أحد النجارين"افرنجي"الصنع في المدينة وكانت عملية نقل التابوت من المدينة الى القرية مكلفة وليست بالسهلة ان لم يتوفر المال والسيارة والتي من المفروض ان يوضع فيها وينقل.

اقترب موعد الصلاة عليه في الكنيسة وتأدية المراسم الدينية،هجم الناس على التابوت وهم يندبون ويولولون ويبكون بكاء مرا ويصرخون وقالت أمه وبرباطة جأش:أريد أن تطوفوا به في حارات القرية  ونحضره الى ابونا الخوري وانتم تهتفون وكأنكم تزفونه أي زفة عريس وأصرَت على ما أرادت تنفيذه وانطلقت الزغاريد الممزوجة بالحزن والاسى الشديدين وحمله الشباب على ألاكتاف أولا ثم على أصابع  اليدين وطافوا به وهم يودعونه الوداع ألاخير ويهتفون ويزغردون وجرت جنازة مشتركة مسيحية إسلامية وطلب من شيخ الجامع أن يتلو بعض الصلوات فالمتوفى ابن القرية بغض النظر عن دينه فالدين لله والوطن للجميع وهكذا فعل الشيخ بعد أن انتهى كاهن الطائفة من المراسم  الدينية وردد بعض الصلوات وذكر بعض ألآيات القرآنية وأبنَ الفققيد وعمَ الحزن وألاسى أهالي القرية والقرى المجاورة على فقدان هذه الشمعة التي هي نتيجة العدوان والاحتلال والتسلط على الغير وعلى شعب آخر،وحاول والده وأهله معرفة من الذي قام بهذا العمل البربري والمتوحش لكن دون جدوى وكذلك  غيرهم،وقال والده ان ألاحتلال هو القاتل ليس غير ذلك،ورفض تقبَل العزاء من مسؤولين أحيانا يحضرون الى القرية لزيارة زبائنهم وقال:لقد أقسمت بانني سأظل أفتش عن وعلى القاتل ومعرفة ألاسباب،فالقمح والجمل والحمارة وصلوا الى القرية وتمت عملية تصفية الشاب،لماذا؟؟مثل هذا العمل غير ألانساني والمنكر؟؟ألا يكفي أنهم شردونا؟ وطردونا من بيوتنا بيوت آبائنا وأجدادنا ؟

لقد كانت جنازة مهيبة وبكوه شيبا وشبانا  صبايا وصبيانا وفتيانا نساء ورجالا ،واستمَر الحزن في القرية لطباق السنة ولم يشهد أي من السكان حفل زفاف  أو خطبة أو اكليل أو عقد قران أو أي مظهر من مظاهر الفرح والبهجة أو السرور كل ذلك حزنا على ابن غسان المغدور اثما وعدوانا  وأن من قام بهذا العمل بعيد كل البعد عن ألاخلاق الحميدة وألانسانية ناسيا متناسيا با ن المغدور هو من البشر وأن البشر سواء في هذا الكون أليس كذلك؟؟!!

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق