بقلم : الدكتور منير توما - كفرياسيف
03/01/2019 - 05:44:21 pm

الرمزية والكنائية في قصة «الكرسي والمغني» لنظير شمالي

تنبني قصة «الكرسي والمغني» على إيقاع الأفول ، والإحساس بالتلاشي ؛ تلاشي الإنسان والزمن والقيم والأماكن الأليفة والمباهج الأثيرة ، وكُتِبَت بنفس مأساوي مرزئ ، لا يخلو من سخرية سوداء، وهي في هذا السياق تشكّل سردية آسرة لقسوة الانسان تجاه أخيه الانسان، ولقسوة الزمن وعتوه ، فتغدو كل مفردة في الوصف توحي بالسير نحو فناء الموت ، ناطقة بلحن المغادرة لهذا الكون .

إن الراوي للقصة وهو البطل الذي تتمحور حوله القصة ، يجسِّد رؤية الكاتب لإنسانٍ فنّان يمتهن الغناء في حانة وقد مَرَ على ممارسة مهنة الغناء هناك السنوات الطوال إلى أن بلغ سنًّا متقدمة واقترب من الشيخوخة المحبطة ، فوصلت بهِ الأمور أن يتعرض لسخرية روّاد الحانة السكارى الذين أهانوه باضطهادهِ وضربهِ وطردهِ من الحانة ليتشرد بعد أن كان له كرسي خاص يجلس عليه في الحانة مؤديًا الغناء حيث تمّ بعد ذلك الاتيان بمغنٍ شاب بدلاً منه وقد احضروا له كرسيًا جديدًا يستمتع بهِ عند تأدية أغانيهِ ، ولطالما حلم المغني المُسِّن محور قصتنا أن يغني اغنية تنبع من كيانهِ وروحهِ خاصة بشعور حميمي داخلي ، ولكنه لم يتمكن من ذلك وبقي يؤدي الأغاني في الحانة وفقًا لأذواق المعربدين فيها ، فقد كان التردّد والتسويف والحيرة والتخبط تسيطر على نفسه دون أن يحدّد سببًا معينًا لذلك ليدخل في حالةٍ من البؤس طالبًا الملاذ من هذه الحياة ليذهب أخيرًا الغابة علّه يجد ضالته هناك ويحقق حلمه بغناء أغنيته التي يتوق الى غنائها على مدار سنوات عمره . ولكن تهب عاصفة هوجاء في الغابة ويحدث إعصار رهيب ، فيعتقد أن شجرة الكازورينا هناك سوف تحميهِ من هذا الاعصار ولكنّ آماله وتوقعاته تخيب ليواجه في نهاية المطاف مصير الانسان الفاني في هذا الكون المتشظي لتشرد الكلمات منه سائرًا نحو نهايتهِ بشكل يُفهم من نص القصة الموت موحيًا بذلك الوصول الى ظلمات الجحيم .

وإذا عدنا الى نص القصة لأدركنا دون أدنى شك أنّ هناك تناصًا في هذهِ القصة ، ولا بد من العودة الى فهم التناص هنا في صورة حركة تدل على تكوين نص هو قصة «الكرسي والمغني» عند كاتبنا قد كتبه في ضوء نص آخر من حيث «الثيمة» «theme» والموتيفات المصاحبة لأجواء القصة . وهكذا يمتد التناص الى مجموعة من النصوص يعكسها هذا الأثر in absentia (حين يتعلق الأمر بما هو مضمر ومؤكد من كناية أو إشارة) أو تسجيله in praesentia ، أي ما هو ظاهر ومرسل ، وفي حالة قصة «الكرسي والمغني» يظهر تقاطع معيّن أو بسيط له علاقة فكرية نفسية ذاتية يمكن أن نعثر عليها في نص القصة وهو تطرّق الكاتب الى السيّد بروفروك وذكره في القصة بتواترٍ خاص من حيث تأثُّر الكاتب بالشاعر والناقد الأديب الكبير T.S.Eliot في قصيدتهِ (The Love Song of

J.Alfred Prufrock) أي „أغنية حب ج. ألفرد بروفروك „ ، فمن الواضح تمامًا أن „بروفروك„ تؤسس موقف اليوت من الحياة الحديثة ،حياة القرن العشرين الناشف والمتصحِّر، على مستوى المعنى والفحوى . إنَّ تصحُّر الروح البشري هو الموضوعة المحورية لقصيدة „بروفروك„ بالاضافة الى التخبُّط والافراط في التدقيق ، ففي قصيدة اليوت هذه ، فإنّ المتكلِّم يعاني من خوفٍ حاد من الفشل في الحب ، وهو خائف من أن يبدأ حتى في محادثة مع امرأة ، وذلك بشيء من الشبه بينه وبين المتكلم الراوي في قصتنا التي نحن بصددها بكون المتكلم يتردّد ويتخبط في الاقدام على غناء أغنيته التي يشتهي أن يغنيها شخصيًا . وتدور قصيدة „أغنية حب ج. الفرد بروفروك„ حول شخصية تحمل الاسم عينه ، وهذا يعني كلما في قصة «الكرسي والمغني» أنها محاولة لاستبار الأزمة الشخصانية التي يكابدها الفرد في المجتمع الحديث ، مجتمع الخيبة والعزلة والحنين الى ممارسة الفعل من دون أية قدرة على الإقدام أو التجرؤ على الممارسة . فإذا درسنا قصيدة „بروفروك„ وقصة «الكرسي والمغني» وفقًا لمنهج التحليل النفسي لما شوهد فيهما شيء حاضر أكثر من عقدة الخصاء . وفي الحقيقة أن بروفروك ، بطل القصيدة ، ومعه المتكلم بطل قصة «الكرسي والمغني» يكابدان من التوزع بين الهوى والجبن ، بل يمكن القول بأنَّ مدار القصيدة على أزمة الشاب الشائخ في المجتمع الشائخ . فمع أن„بروفروك„ ليست أكثر من حوار جواني (interior monologue)   يدور في خلد بطلها وحسب ، تمامًا كبطل قصتنا المتكلم فيها ، وهو البطل المشروخ الى شطرين هما الإقدام والاحجام ، أو الرغبة والعجز ، فإنها لا تخفي أبدًا ما فحواه أنّ لباب الأمر هو شيخوخة الشباب في سواء تفاهة الحياة الحديثة العديمة الجدوى . ونقصد أنَّ الأزمة ليست معضلة فرد مريض يسمى „بروفروك„ أو المغني المتكلم بطل قصتنا ، وانّما هي معضلة شاملة تعم الجميع ، بحيث لا يكاد أحد ينجو من اوضارها .

وفي النص التالي من قصة «الكرسي والمغني» نلمس هذهِ المعاني عندما يقول المغني الشائخ :

" أنا لا أشبه البتّة أي طائر من طيور هذا الكون بأجمعها .. شقيّها وسعيدها !! تلك الطيور المنطلقة بحريتها أينما ومتى شاءت ، فأنا شبه مقعد ، مكبّل الروح والنفس كما الوتن الأبله الذي لا يفقه شيئًا مما يدور حوله !! نعم .. لستُ ذلك الطائر المحلِّق في الأغاني الذي يباري قمم الجبال الشاهقات شموخًا في سماواتٍ عُلاً من فضاءات الحرّية والانطلاق ، فأنا ملتصق كلَّ الالتصاق بقاع هذه الأرض المنكوبة محطمًّا لا حولَ ولا قوةَ لي ! "

ولموازاة هذا النص من قصتنا نأتي بترجمة الاقتباس التالي من قصيدة „بروفروك„ :

" في دقيقة ثمة وقت

لقرارات ومراجعات تبطلها دقيقة

لأنني قد خبرتها كلها مسبقًا ، خبرتها جميعًا –

خبرت الأمسيات والأصباح والآصال وقست

                            حياتي بملاعق قهوة ؛

 

أعرف الأصوات المحتضرة بسقوطٍ محتضر

تحت الموسيقى المنبعثة من غرفة قصية .

إذن ،أنّى لي أن أتجرأ ؟ "

 

ومن هنا نرى أنَّ المغني في القصة وبروفروك في القصيدة يكابدان إحساسًا عميقًا بالاحباط وصراع الانفعالات ، ويهيمن عليهما السأم ، وكذلك على المجال الذي تتحرك فيه كلٌّ من القصة والقصيدة . وهذا يعني مجازيًا ورمزيًا الى أنّ الانسان كائنٌ في شرط معيشي لا يختلف كثيرًا عن الجحيم (inferno) وهذا يتمظهر في القصة بالإعصار الشديد في الغابة عند نهاية القصة بقول المغني «سُدَّ النفق ، والضوءُ غاب !! في إشارة رمزية لما جاء في سفر الرؤيا في الانجيل (apocalypse) حول الأخرويات ونهاية العالم (escatology) وبذلك يوحي كلٌّ من الشاعر اليوت وكاتب القصة بأنَّ بطلي القصيدة والقصة هما الآخران يتحدثان من قلب جحيم آخر . إنّه الجحيم الدنيوي في مقابل الجحيم الأخروي .

وبتركيزنا على رمزية بعض الأمور والمشاهد في قصة «الكرسي والمغني» نجد أنَّ الغابة التي يلجأ اليها المغني أخيرًا ترمز الى عالم النفس والى المبدأ الأنثوي مانح العاطفة والحب . كذلك فإنَّ الغابة في القصة هي رمز وكناية عن مكان للاختبار والمبادرة ، وكذلك رمز للمخاطر المجهولة والظلمات وعالم الموت علاوةً على ذلك تمثّل الغابة دخول النفس في مخاطر المجهول والغامض ، وترمز أيضًا الى نقص الرؤية الروحية والنور ، وكذلك ضياع الجنس البشري في الظلام بدون الإرشاد الالهي .

أما شجرة الكازورينا في الغابة ، تلك الشجرة التي يرى فيها المغني الشائخ نجاته وخلاصه من معضلته ومن الإعصار برمزيته المميتة ، فإنَّ هذه الشجرة ترمز من خلال سياق الأحداث في القصة إلى كل الظهورات والتجليات (manifestation) ، والى تركيب يجمع السماء ، الأرض والماء ، وتعتبر رمزًا للحياة الديناميكية نقيض الحياة الساكنة . وأيضًا ترمز الشجرة الى الإطعام والتغذية ومنح اللجوء والحماية ، والى الجانب المؤيّد والداعم من الأم الكبرى ، والروح التي لا تموت ، وتمثّل أيضًا الخلود ، والموت للعودة الى الحياة ، والبعث والتجدّد . وكل ذلك كان ما يسعى إليه المغني عند شجرة الكازورنيا كرمز للفرد أو الانسان الفاشل أو المحبط الباحث عن خلاصه البشري الشخصي بعد شعوره شعورًا حادًا بتفاهته وتفاهة المجال الذي يجول به ، فضلاً عن أنه يقاسي أعباء رغبة ليست بالمشبعة .

ويعود المغني في الصفحات الأخيرة من قصة «الكرسي والمغني» الى التعرض «لافريقانا» ومعاناة شعوبها في العصر الحديث من التعسف والاضطهاد الأجنبي وكأني بهِ يوظِّف الكل كإسقاط على نفسهِ وحالته باعتبار الكل ينعكس على الجزء ، والجزء أحيانًا كثيرة يرمز الى الكل ، فافريقيا تمثّل رمزيًا الشباب ، البدائية ، المجهول ، الغامض والعقل الباطن اللاواعي . وهذه الصفات طفت في بحر مسيرة حياة المغني بمعانيها الرمزية ودلالاتها الكنائية .

وفيما يتعلق بعنوان القصة ، فإنَّ  «الكرسي» تحمل دلالات العمل في وظيفةٍ ما كعمل المغني مثلاً في الحانة وكذلك تشير الى ترك العمل والتقاعد لاحقًا ليرتاح عليها ، وهذا لم يحدث على المستوى المنطقي الرمزي كما ظهر من الأحداث على الصعيد الفعلي العام . فالكرسي معروفة عالميًا رمزًا للسلطة ، وصاحبنا المغني لم يَحز على أي تقدير واحترام ومكانة بفضل وظيفتهِ في الحانة وكرسيهِ فيها كمغنٍ لا قبل ولا بعد إهانته وطرده من الحانة . وهنا تكمن المأساة والمفارقة في حياة هذا المغني ، من حيث أن الأغنية بشكل عام هي رمز للكلمة التي تربط قوة المبدع بالشيء الذي أبدعه ، ما دام الشيء الذي أبدعه يميّز ويدرك استقلاليتهِ كمخلوق ويمنحه تعبيرًا في فرحٍ وبهجةٍ وكذلك تبجيل وعبادة . وكل ذلك كان مفقودًا لدى المغني في القصة حيث أن اغنيته التي كان متلهفًا أن يغنيها لم ترَ النور أبدًا . وهنا مكمن المأساة لتقاعسه وتردده وفقدانه الشجاعة الذاتية والمبادرة للاقدام على الفعل .

وأخيرًا وليس آخرًا ، فإنّه من أكثر السمات الجمالية في قصة «الكرسي والمغني» قدرتها على تكثيف اللحظات الشعورية ، وتمييزها بهالة صورية تتعالى عن الحدث العارض ، والموقف العابر ، وتمنحها قوة التجريد . والحق أن الكاتب الأستاذ نظير شمالي في اصطناعهِ لمثل هذه المعادلة الصورية كان يستند الى مرجعية أسلوبية تحمل سمات الواقعية بالتضمين الرمزي ، وتتداخل فيها خصائص الوصف التفصيلي بالوقفات التأملية بالتعبير الشاعري الشفيف ، باديًا في نص القصة التكوين المجازي الممتد بالإيحاءات التجريدية لتقنية تيار الوعي ،

(stream of consciousness) .

فللكاتب الكريم أطيب التمنيات بدوام التوفيق والمزيد من العطاء والابداع .

 

كانون الأول 2018

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق