ملامح لمذهب البرناسية في ديوان «أزهار الشر» لبودلير
04/12/2018 - 10:39:45 pm

ملامح لمذهب البرناسية في ديوان «أزهار الشر» لبودلير

بقلم : الدكتور منير توما كفرياسيف

يُعدّ الشاعر الفرنسي بيير شارل بودلير (1867-1821) من أهم الشخصيات الأدبية بين الرمزيين الفرنسيين . وقد كانت حياة بودلير من نمط الفئة المتفسّخة المتدهورة والتي انتهت به الى موت تراجيدي حيث أنَّ وجوده المتهتك العنيف غريب الأطوار أدّى بهِ الى موت مؤلم في سن السادسة والأربعين عامًا .

لقد بدأ بودلير في باريس ناقدًا ومترجمًا ، مقدّما أعمال إدﭼﺎر ألن بو ، الأديب والشاعر الاميركي ، الى أوروبا من خلال الترجمات التي أصبحت من الكلاسيكيات الفرنسية . وقد كان لبودلير مجلّد وحيد فقط من الشعر الذي نُشِرَ في حياتهِ وهو «أزهار الشرّ»

(Les Fleurs Du Mal) الذي تميّزت أسلوبية قصائد هذا الديوان بشكلها الخالص كلاسيكيًا بحيث يشبه الى حدٍ ما أسلوب البرناسيين (الداعين الى كون الفن لأجل الفن أو اعتبار الأدب غاية في حد ذاتهِ والى الامتناع عن استعماله لعلاج القضايا الاجتماعية والسياسية) ، ولكنَّ ما هو أكثر أهمية في ذلك أنها تستشرف تطوّر الشعر الحديث .

إنّ قصائد بودلير ملآى بفروق دقيقة لطيفة مصقولة ، ويتخلّلها عدم الحشمة اللذيذة الرقيقة الموجعة بشكلٍ أو بآخر .

إنَّ المسألة الحسيّة للقصيدة عند بودلير يَتِّمُ نقلها من جانبهِ للمتلقي بصورٍ جميلة أَخّادة لافتة للنظر . وقد اشْتُهِرَ بودلير بمذهبهِ في التطابق أو التوافق (correspondence) المتمثِّل في استكشاف العلاقة بين الأحاسيس والمشاعر المتنوعة التي تمنح تجديدًا مُرَوِّعًا لعمله الأدبي الشعري . وليس فقط تقنية بودلير ، ولكن أيضًا مادة موضوعهِ – جمال المنحرف الفاسد أو الكئيب الى حدٍ غير سويّ ، والتحليل المعمّق للحالات العاطفية المركّبة – هو كلُّهُ ما انعكس في شعر القرن العشرين .

وفي هذا السياق ، فإنه من الجدير بالإشارة الى أنّ شارل بودلير كان واحدًا من الكثيرين الذين أُعجبوا جدًا برواية «مدام بوﭬﺎري» للروائي الفرنسي غوستاف فلوبير . ففي مقالة استعراضيّة حول رواية «مدام بوﭬﺎري» - التي صدرت بعد عدة شهور من المحاكمة التي بَرّأت فلوبير من تهمة انتهاك لحرمة الاحتشام العام والفضيلة الدينية الأخلاقية – وصف بودلير الرواية كانتصار لقوة الكتابة ، تلك القوة الكبيرة جدًا التي نادرًا ما احتاجت الى موضوع . وقد وجد بودلير في رواية «مدام بوﭬﺎري» انتصارًا للتحدي الفني : مُتَخذًا الموضوع الأكثر ابتذالاً ، الزنا ، في المكان حيثما يسود الغباء والتعصّب وعدم التسامح ، وبالتالي خَلْق بطلة تواجه هذا «الغياب الكلّي للعبقرية» بطريقة ذكورية . هذه البطلة ، مدام بوﭬﺎري نفسها ، «هي متسامية في نوعها ، في بيئتها الصغيرة مواجهةً أفقها الصغير» .

وهكذا ، فإنّ بودلير بمديحهِ لرواية فلوبير وبطلتها ، يبدو أنّه يتماهى ويتماثل معها ، رغم الفرق الجذري في الأماكن .

وفي ختام ما ورد آنفًا ، أسوق هنا قصيدتين من ديوان «أزهار الشر»

(Les Fleurs Du Mal) لبودلير ، قمت بترجمتهما عن الانكليزية من الأصل الفرنسي ، وذلك كما سنرى في السطور اللاحقة .

وخلاصة القول إنّ بودلير حاول من خلال شعره في «أزهار الشرّ» أن يعبِّر عن المشاعر والأحاسيس المريرة المؤلمة ، الأمر الذي انعكس في مقولتهِ الشهيرة «سوف أحاول استخراج الجمال من الشرّ» ؛ ويُعَدّ بودلير من رموز الحداثة في أوروبا والعالم ، والذي حاز الشهرة والمكانة الأدبية الرفيعة بعد وفاتهِ .

وفيما يلي ترجمة للقصيدتين المشار إليهما ، ونبدأ بقصيدة :

المِشعل المُفعَم بالحياة

 

إنّها تقف أمامي الآن ، تلكَ العيون المضيئة ،

لا شكَ أنّها مُلْهَمَةٌ من ملاكٍ حكيم ؛

إنّها تقف ، كأخوة شبيهة بالله وهي مُلكي ،

حيثُ تصب نيرانها الماسية في عيوني .

 

من كلِّ الآثام ، من كلِّ الفخاخِ ، أنقذتني ،

في اتجاهِ طريقِ الابتهاج أرشَدَت سُبُلي ؛

إنّها خَدَمٌ لي ، وأنا عبدٌ لها

وكلُّ نفسي ، هذا المشعل المفعَم بالحياة ، تطيع .

أنتِ أيُّها العيونُ الساحرة – أنتِ يا مَنْ تملكينَ هذهِ الأشعة السِّريّة ؛

للشموع المشتعلة في وضح النهار ؛ الشمس

تستيقظ ، ومع ذلك لا توقف ومضاتها الخيالية :

أنتِ تُغَنّين اليقظة ، إنّها النسيان القاتم ؛

يقظة روحي أنتِ تعلنين ،

أيّها النجوم – لا شمسَ يمكنها أبدًا أن تهزم توهَجكِ .

 

_______________________

أما القصيدة الثانية فهي تحت عنوان :

الفجر الروحي

 

عندما يُطِلُّ الصباح أبيضَ ، وورديّ اللون ،

مع المثالي المزعج ، على الفاسق

بقوة المرسوم الغريب ،

في داخل الوحش السّكير ، ملاكٌ يستيقظ

 

الأزرق السماوي العقلي المتعذّر بلوغه ،

لأجل الفانين المرهقين الذين ما زالوا يحلمون ويندبون ،

يتمدّد ويغوص ؛ في اتجاه الهوة المرسومة .

هكذا ، الإلهة المحبوبة ، بكونها نقيّة وصادقة –

فوق بقايا ليالي اللهو المعربدة الغبيّىة

صورتًكِ متسامية أكثر ، زهرية أكثر ، واضحة أكثر

أمام عينيَّ المحدّقة هي دائمًا هناك .

 

الشمس قد عتّمَتْ كلَّ أضواء الشمعة ؛

وهكذا طيفُكِ مثل الشمس الخالدة ،

دائمًا تكون منتصرة – أنتِ المتألقة اللامعة .

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق