الكيف لا الكم في الإبداع الشعري
25/11/2018 - 07:26:02 am

الكيف لا الكم في الإبداع الشعري

بقلم : الدكتور منير توما كفرياسيف

يعتقد الكثيرون ممن يكتبون أو يتذوقون الشعر بأنّ نظم المطولات الشعرية هو نوع من المهارة أو البراعة الابداعية ، وأنّ كتابة القصائد القصيرة نسبيًا ناجم عن قصور في مقدرة الشاعر على كتابة القصائد كثيرة الأبيات ؛ وإنني أرى أنّ هذا الاعتقاد ليس صائبًا في كلّ الأحوال ، لا بل فيه كثير من الإجحاف والظلم وقصر النظر الأدبي ، مع أنني من المتذوقين والمعجبين بالعديد من القصائد الطويلة لشعراء مبدعين ، قديمًا وحديثًا ، تألقوا في خيالهم الساحر من خلال ألفاظهم وعباراتهم ومعانيهم حيث يسكبون طاقاتهم الأدبية في انتاجهم من منظورٍ فنيٍّ أصيل .

ومجمل رؤيتي أنّه في الشعر العربي والشعر الأجنبي لاسيما الانكليزي والفرنسي ، برز واشتهر بعض الشعراء بابداعهم قصائد قصيرة أو معتدلة الطول ، فكانت هذه القصائد درّة التاج في أعمالهم الشعرية ، علمًا بأنّه كان لهم دواوين عديدة تتضمن القصائد الطويلة والقصيرة على حدٍ سواء ، فهذا الشاعر الفرنسي المشهور «بول ﭬﺎليري» قد اكتسب شهرته الأدبية الشعرية بفضل ثلاث قصائد متميزة رغم ماله من عددٍ كبير من القصائد المتنوعة التي نظمها ونشرها على نطاق واسع ، وهذا مما ورد على لسان الشاعر الكبير أدونيس حين تطرّق الى موضوع كهذا في إحدى مقابلاتهِ التلفزيونية التي أردف فيها بالقول إنّ الشعر في رأيهِ يعتمد في المقام الأوّل على ما يتضمنه من معانٍ ، وليس الاهتمام بالشكل ، ففي نظره أنّ بعض الكلام أو الكتابة النثرية أقرب الى الشعر في احيانٍ كثيرة من بعض الشعر المنظرم بشكله العمودي الموزون المقفّى أو شعر التفعيلة (الشعر الحرّ) ؛ وانني لا آتي بجديد حين أقول هنا أنَّ الآداب الأجنبية والآداب العربية قد احتوت على مدى العصور والعهود كتابات نثرية لأدباء كبار بلغة شعرية (poetic language) تفوق ما يسمى شعرًا بالمعنى السائد للشعر .

وأودّ أن أشير أيضًا الى أنّ مبدعين كُثُر قد تميّزوا بشعرهم عن طريق نظراتهم ونزعاتهم الفكرية والوجدانية ، والذين عُرِفوا في العصر العباسي وفي أيامنا هذه أيضًا بالشعراء المحدثين كأبي نواس وأبي تمّام مقارنةً بشعراء آخرين في عهدهم أو من عهود سابقة لهم والذين نُعِتوا وأُشير اليهم بالشعراء القدامى . وفي هذا السياق يورد أدونيس في الموضع الذي ذكرناه آنفًا أنّه في الشعر الفرنسي كان الشاعر المعروف «بودلير» ذا نزعة غربية طاغية في رؤاه الشعرية ، بينما الشاعر الفرنسي الآخر «رامبو» تمتّع بنظرة كونيّة كان فيها للشرق حصة خاصة وللكون عامةً نصيب واسع . وإنني إذ أذكر ذلك ، فلأنني أرى أنّ ذلك يقع ضمن الحقيقة بأنّ الشاعر قد يُخَلَّد عن طريق بيت من الشعر (أو مقطوعة شعرية) ورد في إحدى قصائدهِ نظرًا لفرادة معانيه بشموليتها وجمالياتها وموسيقاها الايقاعية الموحية بالمنظور الكوني للعوامل الثقافية والحضارية ، ولنا مثالٌ على ذلك الأدب العربي حيث يرى الكثيرون من النقّاد والدارسين في بيتٍ لجرير بأنه من أجمل – إن لم يكن أجمل ما في الشعر العربي – والذي يقول فيه :

          إنَّ العيونَ التي في طرفها حَوَرٌ

                     قتلننا ثمَّ لم يحيينَ قتلانا

وخلاصة القول إنّ جودة الشعر في الثقافات والحضارات كافةً يُقاس بالكيفية والنوعية وليس بالكمية أي عدد أبيات القصيدة ، والحق أَنّه يتوجب على الشاعر أن تبدو لديه الروح الفنيّة بحيث يكون إنسانًا مفطورًا على دقة الشعور وعمق وبُعد التَصَوُّر والتمثيل لانطباعات الخيال كي يُجَسِّد بذلك براعته كمبدع ، يصبغ شعره بألوان من التنوّع والتفصيل والتشكيل دون الإنغماس في تكرار نفسه وإشغال المساحات حين لا يتطلب الأمر إسهابًا لا طائل ولا جدوى منه فنيًّا ، بل قد يؤدي الى الانتقاض من قيمة القصيدة عند القارئ لأسباب عدة تخفى على النقّاد ومتذوقي الأدب والشعر المستنيرين الذين يتوقون الى رؤية القصيدة كأنها لوحة صوتية (vocal painting) ، رُسمت ألوانها بريشة الصدق الفني ، وكانت مادتها التمثُّل والإيحاء والإيهام ، وحافزها روح التَمَلُّح والإبداع الذي يتوخّى الإيجاز المنطقي باعتبارهِ من متطلبات الأزمنة الحديثة في عام النقد .

 

تشرين الثاني 2018

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق