قراءة في المجموعة الشعرية "أنا والبحر"لحسام مصالحة بقلم: الدكتور منير توما
12/12/2017 - 07:42:30 am

البحر كمعادل موضوعي برمزية متعددة المعاني

قراءة في المجموعة الشعرية "أنا والبحر" لحسام مصالحة

بقلم: الدكتور منير توما كفرياسيف

 

في معرض تعريفه للشعر، أوّد أن أورد تعريف الشاعر الانجليزي وردزورت الذي عرّف الشعر بأنّه "الحقيقة التي تصل الى القلب رائعة بواسطة العاطفة"، أما رسكن فيقول بأنّ الشعر "عرض البواعث النبيلة للعواطف بوساطة الخيال". وعرّف ماتيو أرنولد الشعر بأنّه "نقد الحياة في حالات تلائم هذا النقد، بتأثير قوانين الحقيقة والجمال الشعريين". وخلاصة هذه التعريفات يمكننا القول بأنّ الشعر هو من "يروم ايصال استجابة الشاعر الانفعالية والفلسفية الى العالم المحيط بهِ. ونتاج الشاعر تعبير عمّا يحس بهِ ويشعر به وليس بالضرورة تعبيرًا عن حقائق معلومة".

ومن هنا، فلا غرابةٍ، في ضوء هذه التعريفات المختلفة، أهمية الدلالة الجمالية بكل ابعادها الفنيةٍ في الشعر المعاصر الذي نحاول تحليلة تحليلاً جماليًا يعتمد على جماليات اللغة الأدبية في عملية الخلق الفني التي تضم بين ثناياها أشياء جميلة، وعواطف نبيلة ومواقف عظيمة. ولكي تحقق التجربة الأدبية قدرتها على الحركة والتأثير وخلق الاستجابة وأخيرًا تجسيد البعد الجمالي في صورها واشكالها، حيث تولد الأصالة الفنية أو الخصوصية الجمالية التي تنفرد بها هذه التجربة دون غيرها. وهكذا كان للشاعر الدكتور حسام مصالحة حضورٌ فني ذو دلالة حضارية متطوّرة في قصائد مجموعته الشعرية "أنا والبحر" والتي نلحظ فيها فرادة اللغة وتكامل الشكل والمضمون واستشراف الواقع المتحرك من خلال الوقوف على ماهية الابداع في تجربته الأدبية الشعرية هذه.

لقد استخدم شاعرنا في أشعار هذه المجموعة وسائل الفن المتمثلة في التنوّع والعاطفة الدقيقة، بل الإبهام في القلب والغموض الواضح في الإحساسات والتردد في حالات النفس. وحينما اتخذ حسام مصالحة من عبارة "أنا والبحر" عنوانًا لمجموعته الشعرية، فقد جعل من البحر في معظم قصائد الديوان مخاطبًا يتوجه إليه بكلماتٍ تعكس مشاعره وأحاسيسه مستعملاً أسلوب الرمز غالبًا حيث يقوم هذا الأسلوب على الايحاء بدلاً من الإفصاح، والتلميح بدلاً من العرض، لأن هذا الأسلوب كفيل بأن يعبّر عما يريده الشاعر من ادراك للمجهول والوصول الى أعماق اللاوعي والتعبير عن المشاعر الخفية والغامضة وحالات النفس الروحية.

ومما يسترعي الانتباه والاهتمام في دراستنا لقصائد شاعرنا في هذه المجموعة أنَّ البحر يشكِّل معادلاً موضوعياً (objective correlative) لواقع هذا الشعر، حيث أنّ الشاعر في هذه القصائد يصف حاجته لتمثيل العاطفة الداخلية لشخصية المتكلّم في النص الأدبي أو الشعري كشخص أو شيء موضوعي.

ومن الأهمية بمكان أنّ شاعرنا قد أدرك جيدًا أن القصيدة التي تكتسب وهجًا خاصًا من حيث المضمون ليست نتاج سكب للعواطف الذاتية لأنَّ الطريقة الوحيدة للتعبير عن العاطفة إنّما تكون بالعثور على معادل موضوعي، وبعبارة أخرى، العثور على مجموعة أشياء، على موقف، على سلسلة من الأحداث تكون هي الصيغة التي توضع فيها تلك العاطفة، حتى إذا أعطيت الوقائع الخارجية التي لا بد أن تنتهي خلال التجربة الحسية، استثيرت العاطفة على التو. ومن حيث أنَّ شاعرنا الدكتور حسام مصاروة يلجأ الى الإتيان بالبحر كمعادل موضوعي، فإنّه يرى في لغة التعبير الشعري أو الأدبي علاقة جديدة ترتفع بالكلمة الى عالم الارتباط الكلي القائم على الإدراك الحسي والمعنوي للمضمون المستخلص من الحس والفكر والواقع وليس مجرد كلمات شعرية بل هي الأسلوب.

إنّ اللغة الشعرية التي تتسِّم بها قصائد مجموعة "أنا والبحر" تمنح الشاعر وسيلة في منتهى الدَّقة والقوة في سبيل تقديم ما اصطلح عليهِ نقديًا بالحقيقة الشعرية (poetic fact) التي تمنح القارئ بدورها دليلاً دقيقًا لمدى استيعاب تجربة شاعرنا أو خبرته لتلك الحقيقة، خاصةً اذا أدركنا تميزُّ القصيدة التي يكمن في تأثيرها الكلي في القارئ أو السامع الذي يستجيب لها عقليًا وعاطفيًا من خلال حركة كلماتها وقدرتها على خلق الصورة الشعرية أو الفنيّة موطن الاستجابة الحقيقية للشعر عامًة. فالصورة والرمز عند شاعرنا في هذه المجموعة مظهران أصيلان من مظاهر اللغة الأدبية الشعرية في التعبير عن تجربة الشاعر وكونه الخاص والعام. فقدرة الإنسان على الخلق واستعمال الرموز هي العامل المشترك بين النمط الأدبي ونمط التحليل النفسي، وبالتالي سنتناول في السطور اللاحقة عددًا من قصائد المجموعة بالشرح والتفسير والتحليل رمزيًا منتهجين مبدأ الدفاع عن الجمال الأدبي (Literary Aesthetics) الذي يرتبط بشكل وآخر بالفلسفة والترميز بابعادهِ الفنيّة في حياة الإنسان والواقع الحضاري.

إنّ البحر في قصائد هذه المجموعة يشكل رمزًا ذا أبعادٍ متنوعة بالاضافة الى كونه معادلاً موضوعيًا كما أسلفنا، ففي قصيدة "تبادُل" (ص 24)  يرمز البحر الى بحر الحياة الذي يتوجب علينا أن نجتازه، وبكونه أيضًا رمزًا لمجموع كل الإمكانيات في تجلياتها حيث تبدو حميمية العلاقة المتبادلة بين البحر والشاعر الذي يبثه عواطفه وأحاسيسه. وفي هذه القصيدة يقول الشاعر:

مِنْ على شُرُفاتِ شاطئكَ السخيِّ

سأنزوي تًعِسًا

بهلوسةٍ سأندُبُ باكيًا يا بحرُ حظَّي

أملاً لتحفظَ راغبًا يا بحرُ سرّي

أو لتكشفَ واثقًا يا بحرُ سِرَّكْ

لتَشُدَّ يا بحرُ أزري

مثلما

سأشُدُّ أزرَكَ.

علاوةً على المعنى الرمزي السابق للبحر هنا، فإنَّ البحر يمثَل رمزيًا أيضًا الأم التي تحتضن ولدها حينما يلجأ اليها في لحظات ضعفهِ وضيقهِ ملتمسًا الحماية والحنان والعاطفة التي يحتاجها في مثل هذه المواقف الذاتية.

ونرى البحر رمزًا للعظمة والجلال والقوة الديناميكية حيث تتجلّى هذه المعاني الرمزية في قصيدة "خبايا الروح" (ص 33)، وفيها يقول الشاعر:

في البحرِ مُتَسَعٌ لكُلِّ الضيقِ

يُفرِغُ حالتي من بؤسها ومصيرها

ويُطهِّرٌ الآثامَ والالمَ من نزواتِها

ليظلَّ جوهرٌها

وما نُتَفًا تكَدَّسَ في خبايا الروحِ

أحلامًا تنيرُ طريقَنا

وأمانيًا وتجليّاتْ

جَرَّاءَ سعينا المحمومِ

خلفَ سعادةِ

موهومةِ

وتواصُلِ الجَرْي الدؤوبِ

وراءَ أوهامٍ يُغذَّينا بها

شَبَقُ الحياةْ

وعند تعَمُّقنا في سبر غور ما وراء كلمات القصيدة نلمس رمزية البحر الذي يمثلّ اللاوعي الجمعي، الفوضى واللا تَشَكُّل علاوةً على الجموخ والتهوُّر غير القابل للترويض، وكذلك التوق الى المغامرة.

وبنفس الروح والكيفية يتماهى شاعرنا مع البحر في قصيدة "انبعاث" (ص 55) وكأنَّ حالة من الضياع تجمع بينهما باعتبار البحر هنا رمزًا للاستكشاف الروحي، ورمزًا الى الوحدة، والزمن والحرية. وفي هذه المعاني يقول الشاعر:

أأنا شبيهُكَ يا تُرى؟

يا بحرُ قُلْ لي!

أو قد تكونُ مشابهي؟

وعجبتَ أنَّكَ قد أضعتَ هويتَكْ

كما سَلَفًا، أضعتُ هويتي؟

وبحالةٍ كثُر الضياعُ بها

تَعَالَ!

لنبحثَ جاهدين معًا!

عن الحقيقة والسرابْ

لكَ أنْ تُخاطبني، تُضلَّلني وتغويني

ولي حَقُّ الهروب الى الهضابْ

وأنْ أهيمَ برحلةِ الأحلامِ

ما بينَ الطفولةِ والكهولةِ والشبابْ

وفي قصيدة بعنوان "البحر" (ص 53) يوحي لنا الشاعر برموز يمثلّها البحر من خلال صورٍ فنيّة محسوسة تتأطرّ فيها رمزية البحر كمصدر للقوة المنتجة المولدة للحياة، والأم الكبرى (The Great Mother)، الموت والتجدّد والانبعاث، الخَلْق البدائي الاصلي، مصدر الحياة، الأبدية، التطهُّر والعامل الوسيط بين الحياة والموت. وهذه المعاني الرمزية والصور تتجسّد في القصيدة التي ورد فيها القول:

واالبحرُ مَنْبَعُنا وملجأُنا

والبحرُ مُنْعِشُنَا

وموئلُ نعشِنا

محطتُنا الأخيرةُ والسلامْ

هو موجةٌ تضعُ للنقاطَ على الجروحْ

فَتُغَلِّبُ الأملَ البعيدَ على الألمْ

تُحيلُ الملحَ أحلامًا

تهيؤُنا

لغَدٍ سيأتي لا محالةَ

لتحِلَّ في تعبِ حُلُولَ الروحِ

في الجسدِ المُهَشَّم والمُهَمَّشِ

صرخةٌ أخرى ونقضي

هي مَيْتةٌ أخرى ونمضي

في فضاءِ الكونِ أفكارًا وذكرى

ليسَ إلاّ

ليس إلاّ

مما تقدّم، يتضِّح أنَّ شاعرنا الدكتور حسام مصالحة قد أبدعَ شعراً فأجاد في صياغتهِ شكلاً ومضمونًا بألفاظهِ ومعانيهِ وايقاعهِ، فجسَّد قدرته كمبدع في استخدام الانزياح واللغة وتفجير طاقاتها وتوسيع دلالاتها من خلال الرمز والصورة الناجحة التي تأتي من تحويل المعاني المجردة الى هيئات وأشكال تنتقل بالحواس مؤدّيةً الى الانفعال الذي يجعل المبدع يتأمل تجربته المرتبطة بالشعور والحواس أبدًا وما تحمله تجربته الشعرية من الصور الحيّة التي تقاس بها جودة الشعر، فالصورة في شعر الدكتور مصالحة كانت وسيلته الجوهرية كمبدع لنقل تجربته ومواقفه تجاه الحياة والمجتمع، وابراز وجدانه فله منا خالص التحيات وأطيب التمنيات بالتوفيق الدائم وبالمزيد من الابداع والعطاء.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق