بيت الحكمة
13/03/2017 - 11:22:04 pm

بيت الحكمة

أ‏. ‬د‏. ‬حسيب شحادة

جامعة هلسنكي


 

أهمية الترجمة وضرورتها،‏ ‬منذ القدم وحتّى‏ ‬يومنا هذا،‏ ‬أمرٌ لا تنتطح فيه عنزتان‏. ‬تُعتبر هذه العملية الفكرية المعقّدة،‏ ‬أو كما تُسمّى أيضا بالفن تارةً‏ ‬وبالعلم تارةً‏ ‬أخرى،‏ ‬من أهم الوسائل لنشر العلم والمعرفة والتلاقح لدى شعوب العالم، حتّى في‏ ‬عصر العولمة هذا‏. ‬كما أنّها تساهم مساهمة جوهرية في‏ ‬بلورة الحضارة الإنسانية العالمية‏. ‬الديانة المسيحية،‏ ‬أكثر الأديان السماوية انتشارًا في العالَم،‏ ‬هي‏ ‬في‏ ‬الواقع،‏ ‬غدت كذلك نتيجة لعملية ترجمة العهد الجديد، إلى جلّ‏ ‬لغات شعوب المعمورة ولهجاتها. ‬

كانت للترجمة اليد الطولى في‏ ‬إثراء اللغة العربية والأدب العربي‏ ‬في‏ ‬الماضي‏ ‬الغابر، وفي‏ ‬العصر الحاضر الراهن على حدٍّ‏ ‬سواء‏. ‬كانت الغالبية العظمى من الترجمات إلى اللغة العربية في‏ ‬العصر العباسي‏ ‬من اللغة اليونانية‏. ‬بالإضافة إلى ذلك،‏ ‬فقد ترجم العرب أيضاً‏ ‬من اللغة الفهلوية‏ (‬الفارسية الوسطى‏) ‬والسنسكريتية‏، لغة الليتورجيا الهندوسية الأساسية. ‬امتدّت مراكز الترجمة إلى مدن كثيرة مثل إدسّا في‏ ‬أنطاكية في‏ ‬سوريا،‏ ‬جنديشاپور في‏ ‬فارس، وحرّان في‏ ‬بلاد الهلال الخصيب، والإسكندرية في‏ ‬مصر‏. ‬لم‏ ‬يصلنا الكثيرُ‏ ‬عن الترجمة في‏ ‬العصر الأموي‏ ‬في‏ ‬دمشق، حيث تمّت في‏ ‬تلك الحقبة ترجمات من اللغة السريانية إلى اللغة العربية‏. ‬ويحكى أن الأمير،‏ ‬خالدا بن‏ ‬يزيد المتوفّى عام ‏٤٠٧‬،‏ ‬قد نقل بعض المؤلفات الفلكية والطبية والكيميائية إلى العربية‏. ‬ويبدو أن أوّل مؤلَّف طبي‏ ‬ترجم إلى العربية كان كناش هارون ‬القس بن أعين عام ‏٤٨٦‬م،‏ ‬وقام بالترجمة الطبيب البصري‏ ‬المعروف ماسر جويه‏. ‬

 

نما الاهتمام بالعلوم الأجنبية وزاد بمرور الوقت، حتّى بلغ‏ ‬أوجَه في‏ ‬القرن التاسع للميلاد في‏ ‬عهد الخليفة العباسي‏ ‬المعروف المأمون‏ (٨١٣-٨٣٣). ‬في‏ ‬تلك العصور اهتم الخلفاء بالعلم والمعرفة كثيرًا،‏ ‬ولا‏ ‬يرى المرء ما‏ ‬يشبه ذلك في‏ ‬العالم العربي‏ ‬اليوم،‏ ‬الذي‏ ‬يعدّ‏ ‬اثنتين وعشرين دولة‏. ‬وكان مؤسس مدينة السلام،‏ ‬بغداد،‏ ‬الخليفة المنصور‏ (٧٥٤-٧٧٥) ‬مولعًا بجمع المخطوطات اليونانية، وأحضر إليه الطبيب السرياني‏ ‬ذائع الصيت،‏ ‬جورجي‏ ‬أو جرجيس بختيشوع المتوفّى عام ‏٧٧١ ‬للعمل في‏ ‬بلاطه‏. ‬ويحيى ابن بَطْريق،‏ ‬على سبيل المثال،‏ ‬قد ترجم العديد من مؤلفات الإغريقيين أمثال،‏ ‬چالينوس وأبوقراط وبطليموس وإقليدس‏. ‬

 

لكن في‏ ‬مضمار ازدهار الترجمة يحتلّ‏ ‬الخليفة المأمون ابن هارون الرشيد‏ (٧٨٦-٨٣٣) ‬المرتبة الأولى دون أي‏ ‬منازع،‏ ‬فهذا الخليفة قد أقام‏ "‬بيت الحكمة‏" ‬حسن السمعة في‏ ‬تاريخ الحضارة العربية‏. ‬وفي‏ ‬رحاب ذلك البيت الشهير،‏ ‬بل قل أكاديمية أو جامعة،‏ ‬عمل مكتب جادّ‏ ‬وهام في‏ ‬مجال الترجمة‏. ‬ولا بد من التنويه إلى أن نواة هذا البيت الطيب العريق كانت خِزانة كتب زمن أبي‏ ‬جعفر المنصور ٧١٢-٧٧٥‬م،‏ ‬ثم نمت وتطورت واتّسعت أيام هارون الرشيد ٧٨٦-٨٠٨‬م والمأمون ٨١٣-٨٣٣‬م‏. ‬وقد احتذى بيت الحكمة في‏ ‬عمله ونظامه بالمدارس الفارسية والمسيحية الشرقية وعمل فيه خيرة العلماء وصفوة المترجمين، أمثال أبناء موسى بن شاكر الثلاثة،‏ ‬محمد وأحمد والحسن،‏ ‬وسهل بن هارون وسعيد بن هارون ويوحنا بن البطريق وأبي‏ ‬جعفر محمد الخوارزمي‏ . ‬وقد أشرف على هذا المجهود الجماعي‏ ‬والمتخصّص‏ ‬يوحنا بن ماسويه،‏ ‬وقد دعم الخلفاء هذا النشاط العلميّ‏ ‬بكل تشجيع وسخاء‏. ترجمت مؤلفات عديدة في‏ ‬الطب والفلسفة والجغرافيا والرياضيات والفلك إلى العربية‏. ‬مراكز علمية مثيلة أقيمت في‏ ‬القرن العاشر في‏ ‬كل من الأزهر في‏ ‬القاهرة وفي‏ ‬قرطبة في‏ ‬الأندلس، واعتبرت جامعة قرطبة في‏ ‬القرنين العاشر والحادي‏ ‬عشر أهم مركز علمي‏ ‬في‏ ‬العالم‏. ‬

 

ومن البديهي‏ ‬أن حركة الترجمة تلك قد واجهت مشاكلَ وصعوباتٍ عميقة وشائكة،‏ ‬هناك لغتان مختلفتان كل الاختلاف،‏ ‬اليونانية والعربية،‏ ‬حضارتان متباعدتان‏. ‬لذلك فإن إيجاد العبارات والمصطلحات الملائمة، كان دونه خرط القتاد في‏ ‬المرحلة الأولى للترجمة‏. ‬ومن الجلي،‏ ‬أن الترجمة الناجحة تقوم عادةً‏ ‬على دعائمَ أساسية ثلاث وهي‏: ‬معرفة لغة الأصل، أي‏ ‬اللغة المترجم منها معرفة شبه تامّة،‏ ‬معرفة اللغة المترجم إليها معرفة شبه تامّة علمًا وعملاً‏ ‬أي‏ ‬من الناحيتين النظرية والعملية‏. ‬والدعيمة الثالثة،‏ ‬دراية كافية بموضوع المادّة المترجمة،‏ ‬فعلى سبيل المثال،‏ ‬لا‏ ‬يُعقل أن‏ ‬يترجم شخص لا‏ ‬يعرف شيئا في‏ ‬الفيزياء مؤلّفا في‏ ‬هذا المادة العلمية‏. ‬على كل حال،‏ ‬إن ترجمة الشعر تبقى،‏ ‬على ما‏ ‬يبدو،‏ ‬أعسر المهامّ حتّى الآن رغم التقدم التقني‏ ‬الحديث فيما‏ ‬يُسمّى بالترجمة الآلية‏. ‬والجدير بالذكر أن قسماً‏ ‬كبيراً‏ ‬من المترجمين،‏ ‬أو الناقلين كما كانوا‏ ‬يدعون آنذاك،‏ ‬كانوا من السريان أي‏ ‬أن لغة أمّهم كانت السريانية وليست العربية المترجم إليها، وهذه الحقيقة كانت مصدر إعاقة في‏ ‬سبيل عملية الترجمة الناجحة إذ أنّ‏ ‬عربيتهم لم ترق إلى المستوى المنشود،‏ ‬على الأقلّ،‏ ‬في‏ ‬المراحل الأولى‏. ‬ويبدو أن أولائك المترجمين قد قاموا أولاً‏ ‬بالنقل من اليونانية إلى لغتهم السريانية ومن ثمّ‏ ‬إلى العربية،‏ ‬ومن نافلة القول أن الهوة ‬تتّسع كلما كانت الترجمة‏ ‬غير مباشرة.

 

 

في أعقاب المجهودات الأولى في‏ ‬الترجمة والعملية التراكمية،‏ ‬انبثقت مفردات ومصطلحات جديدة وآلية معيّنة‏. ‬وعليه ففي‏ ‬القرن التاسع للميلاد ترسّخ علم أو فن الترجمة في‏ ‬عهد العملاقين في‏ ‬هذا المجال،‏ ‬حُنيْن بن اسحق‏ (٨٠٩-٨٧٧) ‬وثابت بن قُرّة المتوفّى عام ‏٩٠١. ‬ترأّس حُنين،‏ ‬الذي‏ ‬كان ذا علم واسع بالعربية والسريانية واليونانية،‏ ‬مكتبَ الترجمة المذكور في‏ ‬بيت الحكمة‏. ‬يقال،‏ ‬والله أعلم، فلا بدّ‏ ‬من المبالغة،‏ ‬بأن حُنينا قد تلقى مكافأة على كل أثر ترجمه إلى العربية وزنه ذهبًا. نمت المعارف والعلوم، ترعرعت وتقدّمت إثر اختراع الورق في‏ ‬الصين في‏ ‬القرن الثامن الميلادي‏. ‬وهكذا أُسّست المكتبات الخاصّة والعامّة والنوادي‏ ‬العلمية،‏ ‬التي‏ ‬كانت تُعرف باسم‏ "‬المجالس‏" ‬في‏ ‬أرجاء الامبراطورية العربية‏. ‬من هذه المراكز العلمية،‏ ‬قرطبة وطليطلة وإشبيليا والقيروان والبصرة والكوفة وبغداد ودمشق والقاهرة وبخارى وحلب‏.‬

وكانت هناك طريقتان أساسيّتان في‏ ‬الترجمة،‏ ‬كما هو عليه الحال،‏ ‬في‏ ‬القرن الحادي‏ ‬والعشرين‏. ‬الطريقة الأولى نحت منحى ما‏ ‬يسمّى بالعربية بالترجمة الحرفية أي‏ ‬ترجمة كل لفظة بلفظة‏. ‬وغنيّ‏ ‬عن التنويه،‏ ‬بأن مثل هذا المنحى قد‏ ‬يكون نافعًا في‏ ‬بعض الحالات مثل إيجاد مقابل معيّن في‏ ‬عالم المحسوسات والأفكار العامّة، ولكن بصورة إجمالية فهو ذو نواقصَ كثيرة‏. ‬والأسلوب الآخر في‏ ‬الترجمة،‏ ‬الذي‏ ‬اعتمده حنين بن اسحق ومدرسته،‏ ‬هو ما‏ ‬يمكن تسميتُه بترجمة المحتوى أي‏ ‬المعنى لا المبنى‏. ‬هذه المدرسة عمدت إلى فهم الجملة كأصغر وحدة لغوية ثم ترجمتها‏. ‬إنّ‏ ‬الصعوبة الكأداء التي‏ ‬اعترضت سبيل المترجمين كانت،‏ ‬والحقّ‏ ‬يقال، إيجاد بدائل للمصطلحات اليونانية التي‏ ‬تعبّر عن أفكار ومفاهيم لم‏ ‬يكن لها وجود في‏ ‬العربية في‏ ‬ذلك العصر‏. ‬ومن ثمرة عمل المترجمين واللغويين بتشجيع الخلفاء ودعمهم ماديًا ‬كان إثراء لغة الضاد وجعلها قادرة عن طريق الاشتقاق المتطوّر وقَبول بعض الدخيل، لأن تصبح لغة علم وثقافة وفكر‏. بمرور الأيام حلّت الكلمات العربية في‏ ‬كثير من الحالات محلَّ الألفاظ اليونانية،‏ ‬فعلى سبيل المثال،‏ ‬المصطلحان‏ "‬علم الحساب‏" ‬و"المقولة‏" ‬حلا محلّ‏ "‬أرثماتيقيه‏" ‬و‏" ‬قاطيچوريه‏". ‬ومن الكلمات اليونانية الأصل،‏ ‬التي‏ ‬لم تحظ ببدائل عربية‏: ‬الموسيقى والجغرافيا والفلسفة‏ ‬

 

في‏ ‬القرن العاشر تبلور ما‏ ‬يسمّى بالعلوم العربية إزاء العلوم الأجنبية أو العلوم العقلية أو الحِكمية‏. ‬لقد أطلق على تلك العلوم العربية العلوم النقلية أو الشرعية وضمّت العلوم الدينية واللغوية مثل الفقه والكلام والصرف والبيان والأدب والشعر‏. ‬اشتملت العلوم العقلية على العديد من أنماط المعرفة مثل الطب والعلوم الطبيعية والموسيقى والفلسفة والفلك والرياضيات‏. ‬وهناك،‏ ‬كما هو معروف،‏ ‬تصنيفات أخرى متعدّدة للعلوم في‏ ‬الحضارة العربية، منها تقسيمات الفيلسوف العربي‏ ‬الفارابي‏ ‬المتوفّى عام ٩٥٠ ‬إلى خمس مجموعات، تتفرّع كلّ واحدة منها إلى فروع‏. ‬تضمّ‏ ‬هذه المجموعات ما‏ ‬يلي‏: ‬العلوم اللغوية وفيها سبعة فروع،‏ ‬العلوم الدينية والطبيعية وفيها ثمانية أقسام،‏ ‬العلوم الرياضية وفيها سبعة فروع،‏ ‬علم المنطق ذو الثمانية أقسام‏. ‬بعد ذلك بعدّة عقود قسّم الفيلسوف الرئيس ابن سينا المتوفّى عام ١٠٣٧م ‬العلوم إلى مجوعتين فقط،‏ ‬نظرية وعملية‏. ‬ولا‏ ‬يحيد المرء عن جادّة الصواب عند ‬القول إن أساس الحضارة العربية كان تلك الثقافة الهلينية التي‏ ‬تُرجمت إلى لغة الضاد‏. ‬ويمكن تلخيص سبل دخول الثقافة الهلينية إلى العرب بما‏ ‬يلي‏:‬

 

‏١) ‬السريان النساطرة الذين كانوا أوائل المترجمين من السريانية واليونانية إلى العربية‏.‬

‏٢) ‬السريان الأرثوذوكس في‏ ‬الكنيسة الأنطاكية، أصحاب الفكر الفلسفي‏ ‬الديني‏ ‬في‏ ‬الفكر العربي‏.‬

‏٣) ‬مدرستا جنديسابور ونيسابور والفرس الزرداشتيون الذين طعّموا الفلسفة الإغريقية بما كان لديهم من تراث فارسي‏ ‬وآخرَ هندي.‏.‬

‏٤) ‬الصابئة/المندائيون في‏ ‬مدينة حرّان‏.‬

باختصار،‏ ‬بوسعنا أن نقرر،‏ ‬دون أي‏ ‬ريب،‏ ‬أن ثقافة الإغريق والهلينية دخلت الفكر العربي‏ ‬عبر اللغة السريانية ومن العربية إلى العبرية واللاتينية في‏ ‬الأندلس فلغات أوروبا،‏ ‬هذه هي‏ ‬حضارة الجنس البشري،‏  ‬كل طرف‏ ‬يسعى في‏ ‬بناء مدماك في‏ ‬هذا الصرح الإنساني المهيب‏!‬

 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق