الخرفانُ والسّكرانُ وما بينهما
08/02/2017 - 07:51:30 pm

"اجترارُ الكلامِ كاجترار الطّعامِ... الخرفانُ والسّكرانُ وما بينهما!!"

بقلم:شريف صعب-أبوسنان

يعتقدُ الكثيرونَ في مجتمعنا بأنّهم أذكى و"أشطرُ" من غيرهم،فهم تُجّارُ كلامٍ وغالبًا ما يتلاعبون بالألفاظ وبالمعاني...يتفنّنون ويتباهَون عندما يسترسلون في التّحَدّثِ عن مأكلهم ومَشربهم، سعادتهم أو عن حكمتهم، دون خجَلٍ وكأنّهم هم شيئٌ فوقَ العادةِ وكأن السّامعين قد أتَوْا من...عالمٍ آخر،"فطبيخهم" يختلفُ عن طبيخ الآخرين وهم الفُصَحاء البُلغاء،فلا أحدٌ يوازيهم سعادةً أو قدرةً على الكلامِ...وإسداء النّصائحِ!

    هؤلاء يعتقدون أن مِن حولهم أُناسٌ غُفّلٌ-جُهَّلٌ لا يفقهون شيئًا وربّما متَأخّرين عن ركب...حضارتهم وهم لا يدركون أنّ هؤلاء الّذين من حولهم إنّما هم واعون،ربّما يتظاهرون بالغباء...حتّى تبقى الجرّةُ سالمة!

    الخَرفانُ والسّكرانُ هما مخلوقان مُتشابِهَان في كثيرٍ من المزايا والتَّصرُّف،فالخرفانُ هو إنسانٌ قد وصل إلى خريفِ عُمره،أي إلى شيخوختهِ فانضربَ نظامهُ الدّماغيُّ وأصبح يُعاني من الصّفات الّتي تُمَيّز "الكهَلةَ"كالنّسيان و التحدُّث بشيئٍ من السّذاجة أو تكرارِ الكلام والأقاصيص مرات عديدةٍ والتّباهي ببطولاتٍ يختلقها من بناتِ خياله العقيم وغير ذلك،ونحن،المُستمعين/المُستمتعين نضاحكهُ ونجاملهُ...ولا نُؤاخذه على ما"يبُثُّه"لنا من خرافاتٍ خياليّةٍ!

    أمّا السّكرانُ فهو رجلٌ فقد اتّزانَ عقلهِ وفكرهِ بمحض إرادته،فبتناوله كميّةً من الخُمور  "المُبتلّةِ"بالكحول يفقد توازُنَهُ العقلي ومعهُ السّيطرةَ على تصرّفاته ويُصبحُ،كما يقولُ الحُكماءُ،كدبٍّ في كرمِ عِنَبٍ أو كخنزيرٍ داخل معرضٍ من الأواني الخَزَفيّةِ...رُبّما لم يُبقِ منها شيئًا!!

    هناكَ مَثَلٌ شعبيٌّ يقول:"يا وَيلنا من الشّابِّ إذا تغرّبَ ومن الختيار الّذي ماتَ أترابُهُ!"فهؤلاء الإثنين...يكذبان ويُؤلّفان دونَ أن يستطيعَ أحدٌ من ردعِهما... أو تفنيد أقوالِهما، فلنَدَعْهُما "يُغنّيانِ" على ليليهِما!

    جالستُ ذاتَ مرّةٍ خرفانًا فراح يتفاخرُ بِ"بطولاتهِ"في الحرب العالميّةِ الأولى،هو ورفاقه وكيف قارعَ جنودَ العدوِّ...وكيف "قضى"على المئاتِ...وبعد الفحصِ تبيّنَ أنّه ولدَ بعدَ انتهاء تلكَ الحربِ...بعشرينَ عامًا،إلّا أنّهُ كان قد تجنّدَ لمدّةِ أُسبوعٍ واحدٍ في حياته...بعد قيامِ الدّولة،فمن هذه التّجربةِ...استقى"أكاذيبَهُ!وآخَرَ كان يحادثُ مجالسيه كيف أنّه ،في شبابه، كان يُهاتفُ الرّئيس"معمّر القذّاني"...بِضعَ مرّاتٍ يوميًّا ويرشدُهُ حول إدارةِ دفّةِ الحكمِ!

    رأيتُ مرّةً أحَدَ السُّكارى وهو يرقصُ وفي يدهِ ورَقَةٌ كانَ أشعَلَها...والحاضرونَ يحاولون نزعَها من يده،ولكن دون جدوى...ولولا إدراك المُحيطينَ بهِ واحتواء تصرّفاته الّلإراديةِ لأحرق البيتَ بمن فيهِ!الأنكى من ذلكَ كلّه أنّهُ كان،من خلالِ"جنونهِ"يُغنّي بصوتهِ المُنَفِّرِ الّذي... يَخجلُ به الغُرابُ،ويتبرّأ منه الحمارُ!

    خرفانٌ آخَرَ سمعَ فريد الأطرش يُغنّي عبرَ المذياعَ فهزَّ رأسهُ وهو يقولُ لمن حولهُ:"سامحهُ الّلهُ على كلّ تعبي عليه!"فقالَ أحدُهم "أيّ تَعَبٍ؟"فأجابه الرّجلُ:"لقد علّمتُ فريد وأسمهان وعبدالوهّاب أُصولَ الغناء والعزفِ على مدى ثلاثين عامًا!"فضحكَ الحاضرونَ بشيئٍ من السّخريةِ...والشّفقةِ...حيثُ أنّهُ في حياتهِ لم يرَ أرض الكنانة،ولا وجوهَ هؤلاءِ،ولو مرّة واحدة!!

    من هُنا نجدُ أنّ هذين النّوعين من الرجال يشكّلان خطرًا على محيطهما لأنّهما يعيشان في أُطُرٍ بعيدةٍ كلّ البُعدِ عن واقعِ الحياة العاديّةِ،ويشكّلانِ،أيضًا خطرًا على نفسيهما لأنّهما ربّما يتصرّفا بشكلٍ غير مسؤولٍ يضعهُما في خانةِ الخطرِ!

    ***أمّا،عزيزي القارئ، أن يتصرّف بعض المُدّعين العلمَ والمعرفةَ والرّيادةَ كالسُّكارى والخرفانين وهم في كاملِ وعيهم،بشحمهم وبلحمهم، فهذا أمرٌ مُستغرَبٌ تمامًا،وكما قُلنا،ظنًّا منهم بأنّ مَن حولهم لا يفقهونَ شيئًا في الحياة.هؤلاء...في كلّ عُرسٍ لهم رقصةٌ وفي كلّ قِصّةٍ لهم...حِصّةٌ وهم ينبّهون ويُرشدونَ ويعرضون آراءَهم ويستشفّونَ الحلولَ للمُعضلاتِ الصّعبةِ ويفصّلونَ مشاكلَ الدّهرِ،وإنْ فحصتَ أمرهم لوجدتهم أكبرَ المُتَورّطين في شؤونهم العائليّةِ والحياتيّةِ وانّ كلّ ما يعرضونه ليسَ إلّا انعكاسًا للأزماتِ المُستشريَةِ الّتي يُعانونَ منها هم أنفُسُهُم وعائلاتهم وأبناؤُهم،فهم يُكابرونَ خوفًا من النّكايةِ،!!

    هؤلاء يجترّونَ خطابهم ويُعيدونَ أقاصيصهم الباليةَ الواهية في كلّ فُرصةٍ مؤاتية، ويدفعون،في المُناسباتِ، مَن حولهم..لحبّ الظُهورِ...في "الصّفّ الأوّلِ" ويضحكون في وجهِ غيرهم بضحكاتٍ صفراءَ مُهزومةٍ ويشكرون ويحمدون ربّهَم... وهم في الدَّرَكِ الأسفلِ!فجلودهم ثخينةٌ وعيونهم لا تُندي دمعًا وإنّما وقاحةً واستكبارًا وغباءً"...صُفرُ الوجوهِ إذا لم يُظلموا،ظَلَموا!"

    أحدُ معارفي كان يعملُ معلّمًا "عيّنوهُ" في زمنِ الجهلِ...والقِلّةِ وقد أسمَوْهُ الطُّلابُ أو لقّبوه بِ"الكذّاب"من كثرةِ ما كان يختلقُ لهم قصَصًا وأكاذيبَ خلالَ دروسهِ...وقد تعوّد على ذلك...فاخملَّ جِلدُهُ،وكان يقصّ عليهم الأساطيرَ حولَ بطولاته  ورجولته ومُغامراته ونجاحاتهِ،ومواقفه...خراريفَ لها بدايةٌ وليسَ لها نهايةَ،فاشتهر بالمعلّمِ الكذاب. ربّما فعل كلّ هذا لعجزٍ في عِلمهِ أو لقلّةٍ في معلوماتهِ وثقافتهِ...فهكذا كانَ يمرُّرُ دروسَهُ... وتنتهي الحِصَّةُ!!

    إنَّ اجترارَ الكلام كاجترارِ الطّعام مِمّا يجعلُ جمهورَ القارئين أو السّامعين أوالمُشاهدين في مَلَلٍ عظيمٍ وهذه هي إحدى المَطَبّاتِ الّتي يقعُ فيها من يّدّعي العلمَ والمعرفةَ والقيادةَ،فمثلًا تكرار أو اجترار الكلام الّذي صدرَ عن رئيسِ الحكومةِ عند تطرُّقهِ للاتّهاماتِ الموجّهةِ إليه مؤخّرًا،وقضيّة التّحقيقِ معهُ:"سوفَ لا يكونُ شيئٌ لأنّهُ...لا يوجدُ شيئٌ!"هذه التّفوّهات الّتي أصبح أتباعُهُ أيضًا يكرّرونها تفضحُ عمقَ الأزمةِ الّتي،على ما يبدو،قد غرِقَ أو...سيغرقُ بها،معَ الأيّامِ!!

    كان والدي،رحمهُ الّلهُ يقولُ لي:"اعلم يا بُنيَّ أنّ الكلام كالطّعام...منه ما يؤكَلُ ومنهُ ما لا يؤكلُ ولا يُهضمُ!"وقال آخر:"قد تستطيعُ أن تضحك على بعضِ النّاسِ كلّ الوقت،وقد تستطيعُ أن تضحكَ على كلّ النّاسِ بعضَ الوقت ولكنّكَ لا تستطيعُ أن تضحكَ على كلّ النّاسِ كُلّ الوقت!"...والحكيمُ من الإشارةِ يفهمُ!!!

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق