لماذا لم تفاجئني أحداث أبو سنان بقلم: بروفسور أمل جمّال
2014-12-04 22:01:21
ان احداث أبو سنان ليست مفاجئة وتشكل محفزًا ليس للوعظ، وإنما لوضع مرآة أمام الذات الجمعية. هذه الأحداث لها علاقة مباشرة بالتعبئة الطائفية الآخذة بالازدياد في المجتمع الفلسطيني في الداخل، وهي تتعلق بعوامل داخلية ومحفزات خارجية، منها في الفترة الأخيرة أحداث العالم العربي وعلى وجه الخصوص في سوريا. لا شك ان هذه المناوشات مؤسفة وهي دلالة على مدى تأثّر المجتمع العربي في الداخل بما يحدث في المحيط العربي، الأمر الذي يؤكّد على أننا استمرارية للمجتمعات العربية وتنعكس لدينا أيضاً عدم قدرة هذه المجتمعات ادارة خلافاتها واختلافاتها بشكل حضاري. من الدارج ان نتهم سياسات فرق تسد كمرجع يعلل هذه الاحداث ويلقي المسؤولية التامة على كاهل السلطة الاسرائيلية وسياساتها على مدار السنوات، كما تحاول بعض القوى اتهام الغرب بما يحدث في المجتمعات العربية. لا شك ان هذا الادعاء صحيح ولو بشكل جزئي، ولكنه لا يمكن ان يكون السبب الوحيد لفهم مجريات المناوشات الطائفية المؤسفة. بالرغم من نفوذ السلطة إلا أنها لا تدخل كل بيت لتلقن الأهل كيفية تربية اولادهم في جميع مجالات الحياة. معروف من ابحاث في مجال علم النفس الاجتماعي، بان الاطفال منذ جيل الثالثة قادرون ان يميزوا بين مجموعة انتمائهم الاساسية ومجموعات اخرى، خاصة اذا ارتبط ذلك بعامل بيولوجي يظهر للعيان، مثل لون البشرة او بعامل ثقافي من الممكن التقاطه ذهنيًّا مثل اللغة أو الاثنين معاً. تنمّى هذه الذهنية منذ الصغر وفي البيوت قبل أن تتدخل أي سلطة خارجية، وفقط عندما يتم بناء القاعدة الادراكية الطائفية يتم تغذيتها من المناهج المدرسية في سلك التعليم العربي، حيث النزعات الطائفية متجذرة على المستوى المضاميني والمؤسساتي. هنالك تنافس طائفي في مجالات حياتية مختلفة لها علاقة بفقدان الدولة الوطنية، وبسياسات الإهمال التي تؤدي إلى نقص في سلطة مركزية تثق بها الطوائف العربية المختلفة، وتشكل مرجعاً مشتركًا لجميعها على حد سواء. غياب عامل موحد يأتي بالطوائف المختلفة بالاصطفاف بشكل مختلف مقابل الدولة، الشيء الذي يؤدي إلى تطور جدلية الخيانة والولاء، التي برزت كعامل مهم في أحداث أبوسنان، والتي لم تكن الأولى وكما يبدو لن تكون الأخيرة ما دامت العقلية الطائفية مهيمنة في مجتمعنا للأسف الشديد.
 
إن المجتمع العربي مجتمع معنف، ولكن لا بد من أخذ الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة في مجتمعنا بعين الاعتبار وهي ثقافة مبنية على عقلية التحريم وعلى التراتب القيمي الثنائي. هذه الثقافة تؤدي باعتقادي الى فجوة كبيرة بين التعددية المجتمعية السائدة وبين آليات التعامل معها بشكل مجاملتي، كما هو متبع تاريخيّاً بدل تداركها جوهريًّا. نحن أمة تعتبر المجاملة ميزة حسنة، حيث أنها تجنبنا الاحراج وترى التعامل مع ابناء الطوائف الاخرى من منظور العيب والخجل، بالرغم أننا نعرف في ذواتنا أن ذلك نفاقًا ويعبر عن قصور نفسي وحضاري على حد سواء. نحن لم نطوّر تربية تعددية تسامحية، مبنية على الاعتراف بهوية الاخر الداخلي والتعارف الجدي، والتعامل مع المختلف بشكل عميق مبني على تدارسه والتعمق في معتقداته وعاداته وتقاليده. كل ما يدور في مجتمعنا هو الاحترام الشمولي المبني على الخجل التقليدي دون طرح اي اسئلة، حول اوجه التشابه والاختلاف بين ابناء الطوائف العربية المختلفة، وكأن الدخول في هذه التساؤلات منزلق أخطر من طم الاختلاف والتعتيم عليه. يؤدي هذا النمط من التربية الى انعدام ثقافة التسامح الجوهرية، والى تطوير آليات مجاملة سطحية لا تتضمن تقبل الآخر واحترامه، بالرغم من الاختلاف في العقيدة والعادات والتقاليد. يعني هذا ان مجتمعنا لم ينجح بتطوير آليات عقلانية لتصريف الاختلاف، بعد أن أصبحت العادات والتقاليد القديمة غير مقبولة، ولم يتم تطوير آليات بديلة. لذلك يتجنّب مجتمعنا احد التحديات الاساسية في داخله وهو ادارة الاختلاف بشكل حضاري وبناء. إن احداث كفر ياسيف والمغار وطرعان وشفاعمرو وأبو سنان، تنتمي إلى نفس الظاهرة وتتغذى من نفس العوامل المتعلقة بالعصبية الطائفية، والنزعات الاستثنائية والفوقية العقائدية المتجذرة في مجتمعنا، والتي يتم تدجينها من قبل المؤسسات العضوية في المجتمع، دينية كانت أو دنيوية. 
 
لا شك ان السلام الاجتماعي كان احد مميزات المجتمعات العربية، ولكن وللأسف كشفت أحداث "الربيع العربي" وسقوط الانظمة القمعية بأن ما حفظ التسامح المتبادل والشراكة في الهوية، هي الانظمة الديكتاتورية أكثر منه ارادة شعبية حرة. سقوط الانظمة القمعية ادى الى تفكك المجتمعات العربية الى فئات متناحرة، واظهر ان الاصطفاف العقائدي والاحتراب هما الآلية الاكثر تقبلاً ووفرة للتعامل مع الاختلاف والخلاف، وبأن الجيرة الأخوية ممكن أن تتحول إلى عداوة طائفية في لحظة واحدة. فما دام هنالك قمع، نحن نرضخ ونحترم الاخرين بشكل قسري. ومع زوال الآلية القمعية الضابطة نحتكم إلى قانون الغاب، تتحكم فيه ثقافة العداوة وإبطال الآخر، وكأننا كنا ننتظر هذه اللحظة، وما التعامل مع أبناء الطوائف الاخرى بالحسنى إلا نفاق مؤقت، إلى حين توفر الفرص للاقتناص وفرض إرادة القوي على الضعيف. بالرغم من الاختلاف الجذري، إلا أن هنالك تشابهًا كبيرًا بين ما يحدث في العالم العربي، وما يحدث في ابو سنان، لأن هنالك خيطًا طائفيًّا واحدًا يربط هذه الحالات المتباينة، حيث أن ظاهرة التدين السياسي أدت إلى تأزيم الوضع الطائفي المتفجر على أية حال. 
 
لا يمكن التغاضي عن الحالة الخاصة للعرب الفلسطينيين، حيث لعبت السلطة دورًا تاريخيًّا في تغذية النزاعات الداخلية، وأدت إلى تطوير سياسة الهويات القاتلة، وحولتها إلى رأس حربة في التعامل المتبادل بين الطوائف العربية المختلفة. إلا أنه لا يمكن أن نتغاضى عن تعاون بعض النخب العربية من الطوائف المختلفة مع هذه اللعبة الخبيثة. فالشكل الذي يتم من خلاله بناء القوائم الحزبية اليوم، لا يختلف مبدئياً عن توجهات حزب السلطة الحاكم – مباي – من حيث ضمان المقاعد لأبناء الطوائف المختلفة. هذا يبدو أكثر حدةً في حالة الاحزاب الدينية، والتي تؤكد الحدود الطائفية وتشرعن استعمال هذا المنطق، من قبل مجموعات أخرى يتم استثناؤها في هذه الحالة. اضافة لذلك لا بد من الحديث عن جدلية الولاء والتخوين كحجر أساس في الخطاب الاجتماعي والسياسي العربي، حيث يتم تخوين الاخر إذا لم يتماشَ مع إرادة أو منحى متوقع له، بحسب إرادة خارجة عنه. فالدروز مخوّنون بغض النظر عما يفعلونه ولا يمكن أن يغفروا عن ذنوبهم مهما فعلوا. والمسلمين متواطئون لأن بعضهم يتعاون مع المخابرات بشكل سري. وها نرى كل المسيحيين يدمغون بالخيانة ويطالبون بإعلان الولاء، بسبب تطوع بعضهم للخدمة في الجيش الاسرائيلي. لا يمكن التغاضي عن لغة التخوين وتنصيب الذات كحاكم يضفي الشرعية على سلك معين دون غيره كجزء من ثقافتنا السياسية. هذا النهج الاستثنائي والتعامل الفوقي يصب في مصلحة الذين يتغذون على العداوة والاحتراب، وما خطابات بعض الشخصيات الانتهازية إلا تعبيرًا عن هذا التوجه.  
من المريح الادعاء بأن السلطة زرعت حالات الاحتراب والخلافات في المجمع العربي، وانا لست من الذين يبررون السلطة، او يدعون انها عفوية واخلاقية في تعاملها مع المجتمع العربي في الداخل. إنما كفى لنا تعليق كل مشاكلنا على شماعة السلطة وتحميلها كل المسؤولية لما يحدث في مجتمعنا. عدا عن كون هذا التوجه غير دقيق، فهو يتضمن رؤية إشكالية لمجتمعنا وكأنه مجتمع قاصر ومتخلف، يقوم بأفعال غير عقلانية بناء على إرادة خارجية لها مصالح معاكسة لمصالحه. أتى الوقت لتحمّل ولو بعض المسؤولية وتوجيه النظر لقصور القيادات في التوافق على آليات مشتركة ناجعة في التعبير عن هويتنا الوطنية ومصالحنا العامة. 
 
لا بد في هذا السياق من تحميل النخب الدينية والسياسية مسؤولية كبرى عما يدور في مجتمعاتنا، وذلك بسبب تغذية النزعات الطائفية وتوسيع الفجوات القائمة بين ابناء وبنات المجتمع الواحد. لا يعني هذا ان النخبة هي الوحيدة المسؤولة عما يحدث، ولكن لا بد من التأكيد بأن بعض النخب كانت وما زالت انتهازية وهي تغذي الثقافة الطائفية التي تخدم مصالحها، وتجند لها اتباعًا يتميزون بالعمى الثقافي والعصبية الهوجاء. أتى الوقت للحد من انتهازية هذه النخب وان تأخذ قوى بديلة مجسرة دورًا فاعلاً أكثر في بناء جسور بين فئات المجتمع العربي المختلفة، والحد من فاعلية الشخصيات الاجتماعية التي من مصلحتها تأجيج روح الطائفية في المجتمع، خاصة اننا نتحدث عن مجتمع محافظ عنده قابلية كبرى للإيمان بمعتقدات خرافية، لا قاعدة ولا اساس لها في الواقع الاجتماعي، وما السمع والقصص والفيديوهات التي تبث في وسائل الاتصال الاجتماعي سوى مثال على ذلك. 
 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق