"زغاريد وتناهيد" قصّة قصيرة:بقلم_شريف صعب.
2014-11-04 14:38:24
أرسلت مُكبّرات الصّوت أصواتًا كادت تصمّ أذاني وآذان كلّ من حضر تلك السّهرة الصّاخبة العظيمة .في الأجواء تلألأت الأضواء المزركشة الملوّنة بجميع ألوان الطّيف الشّمسيّ وأبقت في النّفس سعادةً ومتعةً وإعجابًا بقدرة الخالق...وبعقل الإنسان. لقد ملأ أهل العريس الأجواء بالألعاب النّاريّة الّتي اختلطت مع صوت المطرب الجبليّ الّذي ألهب الجماهير الحاشدة بمواويله وبأغنياته... "الدّيكيّة"! فقد حضر المدعوّون من كلّ مكان لمشاركة أبا سميرفرحته بحفل زواج ابنه الوحيد.  كان أبو سمير بطلًا مغوارًا في شبابه يهابه جميع شباب القرية...بسبب قدرته الجسديّة...وهيبته وحدّة نظراته وشاربَيه، فكان "يبطح" كلّ من حاول منازلته. رزقه الّله "بسميره" الوحيد، مع أنّه أراد في قرارة نفسه أنّ ينجب ستّة أو سبعةَ أبطالٍ..يخلّدون اسمه ويسيرون خلفه في كلّ محفلٍ...كنايةً بأعدائه!!
لم يوفّر أبو سمير أيّ جهدٍ في سبيل إسعاد ابنه وقد تمنّى أن يجعل عرسه حَدَثًا تاريخيًّا  وشيّدَ له قصرًا، فتنةً لأعين كلّ ناظرٍ، وبالطّبع،كلّ فتاةٍ في القرية كانت تتمنّى أن تكون،،،كنّةً للعم أبي سمير ذائع الصّيت برجولته وبكرم أخلاقِهِ.
ملأت الموسيقى أرجاء الإحتفال واتّسعت حَلَقة الرّقص والدّبكة الشّماليّة وارتفع منسوب الحماسة كان الشّباب يرقصون كالسُّكارى والتَهَبَت الأجواء بموسيقى...أغنيات"علي الدّيك"،الّتي"تجبُرُك"على التّعاطي معها...رقصًا وطربًا حيث وجدتُ نفسي أعوم و...أتراقص كالمخبول بين الرّاقصين، متجاهلًا قَدَري ومركزي الإجتماعيّ ،لشدّة طربي،مُتّبِعًا المثل الإيطالي المعروف القائل: "في روما عليك أن تكون روميًّا!" 
إنّ ما تمّم الحفل بالفعل كان ذلك السّخاء العظيم الّذي اتّسم به هذا الإحتفال الرّائع، فقد أقسم والد العريس أن يغمر الضّيوف...بالمشاوي والحلوى والمُكسّرات الفاخرة! حقًّا لقد عملتها يا أبا سمير.
لم أشاهد في حياتي فرحةً كفرحة هذا الوالد يوم زواج ابنه حيث أشعل بحركاته ساحة الفرح وملأها حماسةً وهو...يلوح بعصاه وسط عشرات الشّباب الّذين أحاطوه وهم ينخوه...كمن ينخا فارسًا ركب صهوة جواده في ميدان سباق الخيل..ويصفّقون من حوله كالمجانين وكان ينهر ويرمح ويهدر..كأسد الغابة.. ويلوح بعصاه كلاعب"كركاسٍ" مجترف ويرقّصُ شاربيه "النّسراوين!" 
إلى جانب حَلَقَةِ الرّجال اشتعلت حَلَفَة الصّبايا طربًا وحماسةً...على أنغام الحفل والأغنيات الشّعبيّة، وعندهنّ... حدّثْ ولا حَرَج...فقد وازت فرحتهُنّ عشرة أضعاف فرحة الرّجال،وقد ألهَبْنَ برقصهنّ وزغاريدهنّ...وصراخهنّ أجواء الفرح ومعهُنّ...يطيب السّهر والسّمر!
حقًّا إنّها ليلة من ليالي العمر فقد شعرت بالتعب وانتابني العرق وأنا أرقص مع أبي سمير.. فانبريت لأرتاح قليلًا على أحد الكراسي الشّاغر...إلى جانب أحد الضّيوف، رجل لم أتعرّف عليه من قبل، فحيّيته...ومع التّحيّة الّتي ردّها إليّ بكلمات لم أفهم مضمونها، نظرت إليه وارتدعت على الفور: لقد كانت الدّموع على عرض وجهه تنهمر من عينيه الحمراوين فصرخت في أُذنه: "مبسوط،، ها؟" فأحابني كالمهزوم" من وين، يا حسرتي، مبسوط!؟"
شعرت أنّ الرّجل قد ارتاح لجلوسي إلى جانبه حيث جئته...على الطّلب، ومن هذه الّلحظة راح يسرد عليّ مآسيه خلال دقائق طويلة، حتّى أخرجني من الأجواء الإحتفاليّة تمامًا...وجعلني   ارافقه في طريق آلامه العسيرة الّتي لا نهاية لها!!
خلال حديثه علمت أنّه "أبوعمير" ضيفٌ من اصدقاء أبي سمير.كان نَفَسُهُ يدخل في أذُني بلا حَياء...وكاد يُطرشني، قال:"أنا هون جسم بلا روح لأنّني أعيش مصائبي الكثيرة...فقد بعثلي الّله أربع ولاد وثلاث بنات، وفي صغرهن عشنا في سعاده وهناء،وبعد ما وعيوا خربت الأمور علآخر...لكبير داير علمخدّرات، مُدمن مش عارف حالو وين، والثّاني جبرني أشتريلو سيّارة"شفرليت"، جديدة...عمل فيها حادث طِلع منّو معوّق، عكرسي "جلجليم" بغدرش يتحرّك...شبّ زي النمر، بتشوفو وبتفرّ دموعك علي...جسم مطبّش. بنتي لكبيري "مطلّقة" وقاعدتلّي فلبيت مع ولادها...بتشلع القلب!"
كان الرّجل يرفع صوته ويخفضه حسب ارتفاع وانخفاض زغاريد الصّبايا وقوّة مكبّرات الصّوت وأصوات الشّباب الرّاقصين –المُتهادين في ساحة الفرح.
شعرت أنّه سوف يقدح لي طبلةَ أذني فالتقطت أنفاسي ثُمّ أدخلت فمي إلى أذنه وصرخت:" طيّب لي مع اولادها!؟"
فأجاب:" بعد ما طلّقها جوزها، مات في حادث، أخذوا أهلو الدّار لأنها على إسمهن...ورجعوا ولادها لعندها!"
قلت في نفسي، الّله يساعدك ويكون في عونك يا أبا عمير! "فكيف بدّيش أبكي،أنا كلّ الوقت ببكي...في الّليل وفي النّهار،في الفرح وفي الكَرَه!" قلت وقد أصبحت بكلّ حواسي ملكًا لشجون هذا الرّجل الضّيف، الّذي لم أكن أعرفه من قبل:" كان الّله في عونك يا أبا عمير!"
كانت الفرحة في أوجها وقد لاحظت بطرف عيني بعض الطّيور المزعوجة، تروح وتغدوا سماء الفرح وتُغرّد، ربّما أرادت مشاركة أبا سمير فرحته وربّما...مشاركة أبي عمير أحزانه!
مال الرّجل على أذني ثانيةً وقال:"...كلّ هذا ولا إشي،إلّلي كسر ظهري، المره، إلها سبع سنين واقعه في المرض"السّايب"، والله قلبي مشلوع عليها...لا بنام ليل ولا نهار،الله وكيلك، رايح جاي علمستشفيات... ذبحوها يا حرام في الكيماوي، ومع كل هذا هي أقوى منّي...وبتشجّعني وبتقوللي إتّكِل على الله، وأنا متّكل...مرّتين صابني سكته قلبيّة وصرت عامل "سنتورين"...ومتّكل على الّله، وبتقولّلي فرحان...كيف بدّي أكون فرحان!؟"
فقلت له: وإسّا كيف حالتها؟" "؟إنشالله عمتتحسّن، الّله كبير والعمر بيقطّع الشّدايد...عمبطمنونا إنها راح تتغلّب عليه...الّله كبير، إلي سبع سنين ما نمت زي العالم...ومتّكل على الّله."
رحتُ أحاول تهدئته، رغم الصّخب،والتخفيف من حدّة مصائبه وبأنّ ما عليه إلا الصّمود وتفعيل العقل وأن كلّ ذلك ربّما امتحانٌ من ربّ العباد! 
كانت أحاسيسي ومشاعري تنتفض ألمًا ونسيت ما أنا فيه وشعرت ببرودة غريبة على وجنتيّ، ساعدتْها نسمة تشرين الأوّل الباردة، وضعت يدي، وإذا الدّموع قد ملأت وجهي. لقد خلقني الّله حسّاسًا لمآسي النّاس!
دون أن أشعر رأيت أبا سمير يمسك بيديّ...و"يقتلعني" من كرسي- المصائب الّتي جلست عليها و..."يشحطني" إلى وسط السّاحة، لأرقص معه. قمت،لا شعوريًّا، كجلمود صخرٍأحاول مُسايرته..والدّموع تملؤ وجهي.لاحظ ذلك فمال عليّ وصرخ في أذني" عمتبكي يا رجل...اليوم خمر...وغدًا...!" فصرخت قائلًا:" من شدّة الفرح!" ولم يعلم عمّا كان يدور في صدري.كنت أتراقص ألمًا..ولم أرقص أبدًا.
لم أنم تلك الّليلة فقد راودتني أفكارٌ...وأحلامٌ غريبة.
 في صبيحة اليوم التّالي توجّهت إلى زفّة العريس مع المدعوين من الأقارب والنّسائب والأصدقاء وكانت أفكاري منشغلةً بمآسي رجل الأمس، ألضّيف الّذي صادفته الّليلةَ الماضية والّذي كان حاضرًا/غائبًا. 
بعد أن تموضعت في مكاني جالت عيوني أرجاء ساحة الإحتفال،ورأيت أبا عمير يعمرُ السّاحة ولاحظت أنّه يسير وفي مشيته شيء من العَرَجِ! قلت لنفسي :"تالّله..ألم يكفيه ما هو فيه!!" 
بعد أن جلس بعيدًا عنّي بعض الشّئ لاحظت أن وجهه قد تكدّر وقد...أوشكت الدّموع على "الهطول" من عينيه الزرقاوين!
 لم أستطع أن أتمالك أعصابي ودون أن أشعر بدأت أنا أيضًا..أدمعُ، رغم بُعدي عنه وقلت لنفسي:"والّله لا تدوم لأحدٍ...لا لأبي سمير ولا لأبي عمير، ساعدْ الّلهمّ النّاس على مصائبهم واحمنا  من شرِّ ما يخبّئه لنا عالم الغَيب!"
لم أحضُر زفّة العريس رغم أنّني كنت شغوفًا لحضورها، قمت وأخليت المكان دون أن يشعرَ بي أحدهم وعدت إلى بيتي حزينًا كئيبًا!
 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق