أعتذر.. ولكن، كلمات لا بدّ منها بقلم د. رَباب سِرحان
2014-10-28 13:07:03
تحضرني هذه الأيّام، وبشكل مُلحّ، قصيدة حافظ إبراهيم "اللّغة العربيّة تنعى نفسها/حظّها"، وأنا أعيش وضع لغتنا العربيّة الحبيبة المُوجِع في المدارس، بحكم عملي مُدرّسة للّغة العربيّة في المرحلة الثانويّة. أحزن كثيرًا حين أسمع مدرّس اللّغة العربيّة يُعلن استياءه من الموضوع ويصفه بالمُملّ و"النّاشف". وآخر يندب حظّه لأنّه تعلّم اللّغة العربيّة وهو لا يطيقها، ولكنّه لم يجد مفرًا من أن يُصبح دخيلاً عليها! وأتألّم حين أرى أحدَهم يبحث عن تحليل نصّ أدبيّ في حقيبته وفي خزانته ولا يجده، فيدخل في حالة نفسيّة وجسديّة صعبة (لا أريد أن أقول هستيريّة!) إذ كيف سيُمرّر الحصّة وكيف سيُدرّس النصّ؟ وحين لا تزيد معرفة المعلّم بالنّص الذي يُدرّسُه من حيث خلفيّته، أبعاده المختلفة، دلالاته..إلخ، عن حدود المادّة الموجودة في تلك الورقة المُصوّرة التي يملكها وهي في أغلب الأحيان "مجهولة المصدر!". وحين تمرّ سنة دراسيّة كاملة (وسنوات كاملة) ولا يُلمَحُ كتاب أو مقالة في يد المعلّم يطالع فيه/ا.
هل نعتب على طلاّبنا الذين لم يسمعوا بمحمود درويش ولا بسميح القاسم ولا بغيرهما كُثْر من كُتّابنا وأدبائنا المعروفين، أم يجب أن نعتب على معلّم اللّغة العربيّة الذي لم يسمع بهم؟؟ (صدّق أو لا تُصدّق!). هل يحقّ لمعلّم اللّغة العربيّة أن يشكوَ ويتذمّر من عدم مطالعة طلاّبه للكتب الأدبيّة من قصص وروايات، وهو نفسه لا يُطالع ولا يقرأ؟!
والحقّ، فإنّ هذه القضيّة تشغلني وتقلقني منذ سنوات، ولكنّني أجّلْتُ الكتابة عنها خوفًا من الوقوع في شرك التسرّع والحكم الظالم. وكم كنتُ، في أحيان كثيرة، أضيق بنفسي وأتمنّى لو أنّني لا أكترث ولا أهتمّ وأن أتخلّص من غيرتي الزّائدة هذه على اللّغة العربيّة.. ولكن عبثًا.
ولا أريد أن يُفهم التّعميم من كلامي هذا. فأنا إنسانة ضدّ التّعميم بجميع صُورِه وأشكاله. وأُدرك أنّ كلّ تعميم هو خطأ وأنّ الذي يُعمّم الكلام على النّاس يتجاهل بذلك مواهبهم وقدراتهم وعقولهم، وليس لهذا لأحد من البشر. فأنا متيقّنة ومدركة أنّ مُدرِّسي العربيّة الذين يعشقون لغتهم ويحرصون على نقلها إلى طلاّبهم بأجمل صورة، موجودون ولهم تأثيرهم الجميل وبصمتهم الرّائعة التي ترافق طلاّبهم مدى الحياة. ولكنّني، من ناحية أخرى، لا أستطيع تجاهل وجود تلك الشّريحة من المعلّمين الذين يُنفّرون الطالب من اللّغة العربيّة ويساهمون في توسيع الهوّة وتعزيز مشاعر الكره والجفاء بينه وبين لغته.
وأهميّة اللّغة العربيّة ووجوب المحافظة عليها ليس موضوعًا جديدًا، فواجب كلّ ناطق بالعربيّة أن يدرس هذه اللّغة ويفهمها ويُتقنها ويصونها وذلك، وأقتبس هنا كلمات عبد الفتاح المصري في كتابه قطوف لغويّة، لأنّ " اللّغة العربيّة هي سجلّ المعارف والعواطف العربيّة على مدى التّاريخ. فاللّغة ليست مجرّد أصوات مُركّبة، ولكنّها قالب للفكر وجزء رئيس من تاريخ الأمّة، والعربيّة معين لتراثنا الخالد، كلّ كلمة فيها تاريخ، وكلّ حرف منها مستودع وذكرى، واللّغة في كلّ زمان هي المرتسم الحضاريّ للنّاطقين بها، وهي في صميم المعركة عند كلّ احتكاك حضاريّ بين أمّتين، ثمّ إنّ العربيّة هي المقوِّم الرّئيس للقوميّة العربيّة، وهي جامعة شمل العرب في جميع أنحاء العالم العربيّ، وهي الحصن المكين الذي يقينا من السّهام المصوّبة إلى كياننا الحضاريّ". 
ولهذا، يجب على معلّم اللّغة العربيّة بصفة خاصّة، أن يعي المسؤوليّة الكبيرة التي ألقتها هذه اللّغة على عاتقه، وأن يُدرك واجباته الكثيرة نحوها. وأعتقد أنّ سرّ نجاح أيّ معلّم هو حبّه الصّادق لموضوعه واحترامه له، وقدرته على نقل هذا الحبّ وتسريبه إلى قلوب طلاّبه ونفوسهم بهدوء وبدون تكلّف.
للأسف الشّديد، فإنّ عددًا كبيرًا من معلّمي اللّغة العربيّة اليوم يفتقرون إلى حبّ اللّغة (لا أُطالبُهُم بعشقِها)، فكيف لهم أن يجعلوا الطلاّب يحبّون هذه اللّغة ويتصالحون معها؟ 
وأنا في كلّ هذا الكلام لا أُبرّئ الطالب وأجعله موضع الضحيّة التي لا ذنب لها بما لم تقترف يداها! فأنا أعرف أنّ معظم طلاّبنا اليوم يجتاحهم مرض الخمول، وهم لا يريدون أن يُجهدوا أنفسهم بالتّحضير عن الكُتّاب والشّعراء، أو "يُتعبوا رؤوسهم" بقراءة ما بين السّطور وورائها عند تناول أيّ نصّ أدبيّ، أو حتى ينظروا إلى الجملة التي طُلِبَ منهم إعرابها، وكأنّه طلب غير مُوجّه إليهم أصلاً لعلاقة العداوة التي تربطهم بحصّة القواعد بصفة عامّة، والإعراب بصفة خاصّة!
وهنا يأتي دور معلّم اللّغة العربيّة ومدى ذكائه واستخدامه لطرقه الخاصّة في سبيل تقريب طلاّبه من اللّغة ومدّ جسور المحبّة بينهما. عليه أن يجعل الطلاّب يلمسون حبّه للّغة.. في نبرة صوته، في حركاته، في عيونه. بإمكان معلّم العربيّة أن يُحوّل درسه إلى متعة ما بعدها متعة، وذلك بتحفيز الطّالب وإثارته بالأسئلة المتنوّعة وخلق روح التحدّي والاصرار في نفسه وإكسابه طرق التّحليل الأدبيّ العميق، وصقل الحسّ النّقديّ عنده وإيصاله إلى مرحلة يُصبح فيها مُتذوّقًا للأدب مُستمتعًا به. وكلّ ذلك بلغة عربيّة فصيحة سلسة ومُتقنة، بطريقة جميلة تجعل الطالب مدفوعًا إلى الإصغاء للمعلّم ومشدودًا لسماع كلامه.
ما يحدث اليوم في مدارسنا هو اتّباع غالبيّة المعلّمين لطريقة التّلقين بغض النّظر عن الموضوع. ولمعلّم اللّغة العربيّة أقول: ليس هكذا تُدرَّس اللّغة العربيّةّ!! فهذه الطريقة تبعث الملل في نفوس الطلاّب ثمّ التّعب ثمّ كُره الموضوع. وللأسف، حتّى التّحضير لامتحانات "البجروت" أصبح بهذه الطريقة. فالمعلّم يوزّع على الطلاّب أسئلة من امتحانات سابقة ويلقّنهم الاجابات، فتصبح دراسة الطالب للامتحان عمليّة حفظ أو "بصم" على حدّ تعبير الطلاّب. ولا يُدرك هؤلاء المعلّمون أنّهم بهذا يقتلون عنصر المتعة ولذّة التّحليل وإعمال الخيال والذي يجب أن يكون في جوهر تدريس اللّغة العربيّة. فالتّعليم ليس شحن فكر الطالب بتلقين المعلومات، لأنّ عقل الطّالب وفكره لا يمكن اعتباره "شاحنة"، فالهدف من التّعليم هو فَهْمُ ما نتعلّمُهُ.
وختامًا أقول إنّ مهنة التّدريس رسالة سامية، فكم بالحري تدريس اللّغة العربيّة في هذه البلاد وفي ظلّ كلّ المحاولات لتهميشها وإضعافها ومؤخّرًا حتى محوها وإلغائها. على كلّ معلّم لغة عربيّة أن يزرع محبّة هذه اللّغة في قلوب طلاّبه، ولن يتحقّق له ذلك إلاّ إذا ملأت هذه المحبّة قلبه أوّلاً. ولمعلّمي العربيّة الذين قصدتهم في مقالتي.. أظنّ أنّني لن أحتاج إلى الاعتذار منهم، لأنّهم سوف لن يقرأوا المقالة ولن يعلموا حتّى بوجودها!
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق