"عودة جهاد" قصّة قصيرة:بقلم شريف صعب أبوسنان
2014-09-29 20:26:28
"عودة جهاد" قصّة قصيرة:بقلم شريف صعب أبوسنان
رأى جهاد جميع النّاس في كلّ مكان، شاهد أشكالهم وأحوالهم،أفراحهم وأتراحهم، حسناتهم وسيّئاتهم...وزلّاتهم...وغطرساتهم وأكاذيبهم،إلّا أنّ أحَدًا لم يشاهده على الإطلاق. لقد عاد على شكل خيالٍ أو طلسَمٍ...أو شَبَحٍ، يجوب الهواء ويقفز فوق السّطوح، ينام أحيانًا في المقابر وأخرى في المعابر...وكثيرًا ما يدخل البيوت مراقبًا حركات أهل البيت...يتسلّل إلى غرف نومهم ويشاهد كلّ شيء! لم يكن صوته مسموعًا رغم نداءاته وصيحاته ولم تظهر صورته على أحد رغم رغبته في إظهارها على الملأ، أراد أن يعود ليكون واحدًا من أبناء قومه الّذين عايشهم وعاشرهم على الأرض في فترة حياته القصيرة الّتي عاشها، عندما كان يسير بقامته الفارعة، دارع الصّدر في طرقات وأزقّة قريته الصّغيرة...حتّى يوم زواله من هذا الكون! كان يرى ولكنّه لم يُرى أبدًا. في يوم زواله تمزّقت جثّته وتقطّعت أوصاله وطار دمُهُ في الهواء إلى السّماء...تفجّر ولم يبقَ منه إلّا هذا الهيكل الهزيل غير المرئيّ. لقد انحصر دوره الآن في زيارة أهله...وقومه في أحلامهم وفي مناماتهم، هناك كان يوصل رسالته بحريّة تامّة...وجهًا لوجهٍ. في ساعات النّهار كان ينادي ويصرخ،دون أن يسمعه أيّ بشريّ حتّى انبحّ صوته واصفرّ لون عظام هيكله العظميّ...من شدّة الشّغَفِ! لقد أسمَوْهُ جهادًا على اسم أخٍ له دهسته سيّارة عسكريّة، وهو في الثّالثة من العمر، مرّت بسرعة جنونيّة إثر حَدَثٍ أمنيٍّ...في أحدِ شوارع المُخيّم الضيّقة، الّذى بالكاد يتّسع لعبور عربة حصانٍ. كانت المحنزرة مسرعةً فضربت الطّفل الّذي عبر الطّريق الضيّقة...مُسرعًا لمدرسته، وأردته قتيلًا، ثمّ تابعت سيرها...نزولًا عند رغبة الحَدَثِ الأمنيّ الحاصل! لم يكن عند الجنود مُتّسَعٌ من الوقت لمعالجة الطّفل، فهو بالنّسبة لهم طــــــــــــفلٌ آخــــــــــــــــرَ...لحق بقافـــــــــــــلة أطفالٍ كُثُرٍ..قُتلوا في ظروفٍ مشابهةٍ، ثُمّ من قــــــال بأنّ قتـــــــــــلَ الأطفال حـــــــــرامٌ في شــــــــرقنـــــا الجــــــــــــريح؟! كانت ألأمّ في الشّهر السّابع لحملها عندما دُهِسَ طفلها...ولم تجهض، رغم آلامها وأحزانها ولوعتها ثمّ ولدت طفلًا ذكرًا آخرَ، فالإنجاب في بلادنا لا يكلّف الكثير...وكفاهم مُتعةً... ودون"شَورٍ أو دستور"أسمته جهادًا على اسم أخيه "المغدور"، رغم أنف القتلة وأبيه الّذي أراد أن يسمّيه "عِنادًا". وهكذا حملت الأمّ في قلبها حُبّ الإنتقام لابنها وقد عشّشت حسرته في قلبها، عميقًا...مع أنّه كان عندها ثمانية أبناءٍ وخمس بناتٍ، إلا أنّ مكانته وصورته لم تبرحا من خيالها أبدًا! أرادت الأمّ الإنتقام من جنود الإحتلال...الكَفَرَة! نما جهاد "الثاني" وسيمًا جميلًا، طِبق الأصل عن أخيه المغدور...وسبحان الّله، كأنّ روحَ الأوّل وشكله قد انتقلا إلى الطّفل الجديد، جميل الطّلعة مُبشّرًا، فِتنةً لكل ما رآهُ! لم ينتبه أيّ واحدٍ إلى أنّ أمّه كانت تعبّؤهُ،منذ طفولته، بأفكارها ونواياها الإنتقاميّة من الأعداء...الّذين استباحوا الدّمَ والأرض والعرض وحتّى الشّرف فأمّه" كفاح"شديدة المراس ، عنيدة وقد نذرته في سبيل الّله والوطن والكرامة، متمشّيةً مع ما كانت تفهمه من التّعاليم الدّينيّة...والفتاوى التّكفيريّة الجهاديّة ولقد أشبعته كلامًا و"تثقيفًا"! لفت جهاد بعضلاته وبهيبته وبطلعته جميع من شاهده وكان شابًّا طائعًا خلوقًا مؤمنًا وقد برز بين زملائه في المدرسة ولو أراد أن يصبح مهندسًا أو طبيبًا أو عالِمًا، لكان له ما أراد! أحسّت كفاح أن ابنها سيُشفي غليلها ونذرته شهيدًا،وما زاد الطّين بلّةً انضمامه لإحدى الفرق التّكفيريّة الّتي سعت ودعت...لإعادة الاعتبارعن طريق بناء شخصيّة المجاهد الشّهيد الحيّ! انضمّ.. وكان يقضي أوقاته في سبيل تعاليم أشكال الجهاد والانتقام،والأخذ من الكفّار المارقين وأتقن طرق الكفاح...والتّفجير. لقد تلاقت تعاليم رفاقه مع دفع أمّه أيّما لقاء فهي أدخلت فيه حبّه للوصول إلى الجنّة والعيش في حاضرة "سيّد المؤمنين" أمّا هم فقد أشبعوه وعودًا...بالحواري والوصيفات الّلواتي ستنتظرنه في الجنّة فأصبح جُلّ تفكيره في نَيل الأرب، مع كلّ ذلك فقد كانت لديه مخاوف كثيرة من عبور ذلك...الجسر الضيّق الأليم، في تلك الّلحظة العصيبة، وهل هو إلّا إنسان يحمل جميع المزايا البشريّة ، دفعته الظروف البيتيّة والدينيّة والجهاديّة..والبيئيّة لفعل ما لا يمكن أن يحصل في ظروف عاديّة! كان عقله وروحه يتّجها إلى نهر العُبور...كقطيع بقر النّوّ الّذي رغم مخاطر أنياب التّماسيح، يشاهد في عيون خياله...خضرة الحقول اليانعة، في طرف النّهر الآخر!! "ما أفخمَها من حياة تلك هي حياة الجنّة في السّماء قرب ربّ العالمين، وأنت الشّهيد المُفدّى المُعتبر!"هكذا كان يحادث نفسه في اعتصامه"وما أطيَبَ زغاريد الحواري والنّساء والأمّ وتكبير الرّجال لتمجيد عَظَمَتك في يوم شهادتكَ!!"...هكذا كانت الأفكار تجول،تباعًا،ولم تنفكّ عنه. اغتسل صبيحة اليوم المنشود ثمّ "رشرشته" أُمّه بعطور العنبر والرّياحين وتبادل القُبل مع أبناء العائلة،فردًا فردًا،مُركّزًا على جبين أمّه الجسور فغنّت له أغنية الشّهادة وزغردت زغرودةً مُطوّلةً...كادت تختنق في نهايتها... فَرَحًا. بكى الجميع إلا هي، فقد تبهرجت وتزيّنت مُنتظرةً سماع الخبر ..."هكذا سيُؤخذ الثّأر ممّن دهس وهرب وقهر!" خرج جهادٌ من البيت إلى غير ما رجعة وتوجّه رأسًا إلى رفاقه المجاهدين الّذين منّنوهُ وربّتوا على أكتافه حيث سيصبح شهيدًا مُكرّمًا...وسينعم بالحوريّات الفاضلات وبالوصيفات عند ربّ العالمين، ثمّ هزجوا له أهزوجة الشّهادة. وضع الحزامَ على خصره واتّجهَ إلى السّوق المكتضّة بالمواطنين الآمنين.كان سَيره، فشخة إلى الأمام وفشختين إلى الخلف...وكيف سيصبح ماء وجهه إن هو لم يحقّق حلمها ورغبتها المريرة يا تُرى؟! بدت علامات الحَيرة على وجهه، دون أن يرتبك. كان قلبه يضرب في صدره بتسارع كبير وراح ينتظر دوريّة "الكفَرَة الغادرين"ثمّ شرع يتأمّل النّاس الّذين من حوله والنّساء الجميلات الّلواتي كنّ يشترين احتياجات بيوتهنّ في هذا الصّباح الرّبيعيّ البهيّ، كثيرات كُنّ يحملن أطفالهنّ على صدورهنّ ولكنّه لم يفكّر بمصير هؤلاء المساكين ...لأنّ المخفيَّ كان أعظمَ بكثير...فهو يُلبّي نداءً جهاديًّا. خلال دقائقَ أطلّ الجنود من بعيد ، فانبرى يُساوم أحد الباعة مُتظاهرًا كمواطن عاديّ. كان الجنود السّاذجين مدجّجين بالسّلاح شاخصي العيون ومع مرورهم إلى جانبه صرخ صرخته وهو يسحب خيط المتفجّرات ولم يستطِع أن يسمع صوته، فأوّل ما طارت منه...طبلات أُذنيه. تفجّر المكان وحصل ما حصل، لقد طار لحمه ودمه في الهواء مع من طاروا...وكأنّهم رؤوسُ غنَمٍ قد نُحِرت. كان الإنفجار قويًّا هزّ المدينة ووصلت أصداؤه...إلى بيت أهله، لقد وصلت الرّسالة! وصلت روح جهاد مع هيكله العظميّ، خاليًا من الّلحم والدّم، إلى السّماء وعلى الفَور راح يُفتّش عن ثوابه ...وعن الحواري والوصيفات الّلواتي تنتظرنه. وجدَ البوّابة وأقحم على الدّخول فأوقفه مأمور الحديقة الغنّاء"إلى أين؟" سأله."أنا الشّهيد جهاد، وقد نفّذت أمر الّله وجاهدت في سبيله وقد جئت لآخذ ثوابي...ونصيبي، فقد لبّيت النّداء." "كمان انتَ" قالها المأمور بنبرةِ غَضَبٍ، "أُدخُل!" دخلَ وانصدم على الفور من روائح المكان وظروفه وأحسّ بالألم:ملايين الجثثِ والأشلاء "مرميّةً" في كلّ حدبٍ وصوب دون حَراكٍ وقد طالها العَفَنُ من قلّة الإهتمام! لقد انصدم من الروائح، فلا حواريَ ولا وصيفاتٍ، ولا عسلَ ولا لبنَ ولا أنهارًا ولا بحارًا، وإنّما عتمُ قبورٍ وأصواتُ طُيورٍ،تطير في أجواء الحديقة كالوطاوط والخفافيش. على جوانب الحديقة كُتِب على يافطاطٍ عُلِّقت،بخطٍّ أبيضٍ بارز: "شُهداء صدر الإسلام"،"شهداء العصر الأمويّ"،"شُهداء العصرالعبّاسيّ"،"شُهداء_البيزنطيّ"،"شُهداء الأيّوبيّ...العثمانيّ...الإستعمار...شُهداء معارك العرب بالعرب!" كاد يُجنّ جنونهُ ولعن السّاعة الّتي "طار" فيها إلى السّماء تاركًا أهلًا ووطنًا وأحبّاءَ. عاد إلى الباب،مُكابدًا السّير بين الجثثِ والأشلاء يتقصّفُ داخلَ عظام هيكله و تقدّم من المأمور قائلًا:"بعرضِكَ، أخرجني من ههُنا ولأكنْ عبرةً للعالمين!" أمعن المأمور النّظر في الهيكل القابع أمامه وقال:"متى أنتم، أيُّها البشر، ستُحبّون بعضكم البعض ,إلى متى سيستمرّ انتقامكم البغيض هذا...فتسفكون دمائكم لأسبابٍ تافهه، ألا تخجلون من أنفسكم ومن الشّعوب الرّاقية ومن ربّكم الّذي هو وحده مالك لأرواحكم ولكلّ شيئ في هذا الكون الكبير!؟ إعلموا أنّ كلّ ما يحصل لكم هو مقدّر من عند الّله فكونوا معه حتّى يكون معكم! ...والآن سأعيدك إلى الأرض، بشكلٍ شاذ، هيكَلًا أمردًا علّك تُغيّر العقولَ وتصحّحُ من اعوجاجِ النّفوس...تعود لتزور النّاس في أحلامهم ومناماتهم وتهديَهم إلى الطّريق القويم، وقل لأمّك إنّ كلّ ما فعلته ليس إلّا من أصناف الكفر البَشَريّ غير المحدود، إذهب!" طار هيكل "جهاد"في الفضاء وراح يُحلّق فوق قريته وها هو اليوم يقفز فوق السّطوح كأبناء الشّياطين، يبكي وينوح على بئس مصيره وعلى فقدان الفرصة، يرى ولا يُرى، يُشاهِد ولا يُشاهَد، يَسمع ولا يُسمَع ولم يشعر به أيٌّ منهم إلّا في الأحلام والكوابيس فيرهبهم ويحادثهم عن كذبةِ الصّعود إلى السّماء...ويرشدهم علّهم يهتدون وهم يكادوا يُجنّونَ من شناعة ذلك الهيكل العظميّ الّذي أصبح يقضّ مضاجعهم. إنّ أصعب لقاءٍ له عندما يلتقي بأمّه في منامها فيلومها على فعلتها ويلوم نفسهُ أمامها كيف غُرّرَ به وكيف ابتلعَ...الضّرب في لحظات غفوته وكيف أنّه لم يجد شيئًا من وعودها ووعود المُجاهدين الطّنّانة الّتي لا رصيد لها في هذا الكون...وأمّه تتحرّق وتتلوّع من شدّة حسرتها! بقي جهاد صاحب الطّلعة البهيّة والقدّ الميّاس في عقول النّاس إلى الأبدّ و...هيكلًا في أحلامهم، مرّةً يطير في الهواء، ومرارًا من فوق السّطوح ليكون عبرةً للمُعتَبِرين إلى يوم القيامة...يتضَوّرُ جوعًا ويعتصر نَدَمًا وألمًا ولو طال أكواعه...لعضّها أسَفًا!! . 0 00 حكج
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق