"حرّاس الكرم" قصّة قصيرة بقلم:شريف صعب_ أبوسنان
2014-09-21 10:00:51
"حرّاس الكرم"
قصّة قصيرة بقلم:شريف صعب_ أبوسنان
كانت الطّيور الجارحة تحوم فوق كرم العنب بشغف عظيم ثمّ تُغير على الأرض مُستهدفة الجثث المبعثرة، فتقضم الّلحم منها ثمّ تبتلع بشراهة بارزة ثمّ تعاود طيرانها لتُعيد الكرّة.كانت الجوارح تُحلّق...وتنعق فرِحةً مع أنّ بعض جثث الحرّاس  كانت لم تزل حيّةً...وأوردتها تنتفض..أَلَمًا وقد شاع  أنّ بعضهم كان ما زال حيًّا...لم يفارق الحياة!
لقد كانت هجمات ثعالب الّليل شرِسةً إلى حدٍّ كبير و فاقت بوحشيّتها كلّ التّوقعات...فقد قطّعت وهشّمت وفعلت ما لم تفعله أعتى الحيوانات الضّارية.
برز من بين هذه الطّيور بعض طيور الأبابيل وبعض النّسور وغيرها..وقد استماتت جميعها في تحصيل حصّتها...من هذه الجثث المُنطرحة على أرض المعركة...والّتي لم يأت أحدٌ حتّى ساعات الظّهيرة...للملمتها أو لدفنها !
حصل هذا في أحد كروم العنب المجاور لإحدى القُرى النّائية في بلاد المشرق العتيق حيث كان يعيش بضع المئات من أهل الخير البسطاء على ما يسّره الّله لهم من أرزاق، ولم تكن حالهم في وضعٍ يُحسدون عليه...فلكلٍّ منهم قطعة صغيرة من الأرض يفلحها ويأكل من خيراتها،من الخضار وبعض الفاكهة...وممّا تنتجه له بعض الدّواجن ورؤوس الماشية...وهم يسكنون في بيوتٍ خشبيّة ربضت على سفوح إحدى الهضاب.
وكانت،عندها، أراضي القرى تابعةً لسلطان البلاد...فهو الحاكم الأكبر الّذي يأخذ ويعطي، يأمر وينهي، يحكم ويعفو...حتّى أنّ أحدًا لم يجرؤ على اعتراض رأيه السّديد العنيد، فكلامه لا"يسقط على الأرض" وشوكة هيمنته نافذة مـــــــــــؤلمة!
في أحد الأيّام أمر السّلطان أن يُزرَعَ كرم عنبٍ من الصّنف الفاخر الشّهيّ بجانب كلّ قريةٍ...ليزوّد أهلها بالعنب وبالنّبيذ الّلذيذ...وليصنع النّاس من أعنابه ما يشاءون. خُصِّصت قطعة أرض "دَسِمَةٍ" وواسعةٍ لهذا الغرض فراح النّاس يعملون بكدٍّ واجتهادٍ لإنجاز هذا المشروع الّذي ..سقط عليهم من السّماء...فلم يتخلّ أحدهم عن واجبه. نُظّفت الحجارةُ ثمّ حُرِثَ وسُمّد وزُبِل...فقد أحضر النّاس الزّبل على رؤوسهم من القرية،بعدها زُرِعت أنبات الدّوالي الفاخرة...وحُفِرت معاصر النّبيذ...وعمّت الفرحة العارمة الجميع واستبشر النّاس خيرًا.
جاد المطر فنمت أشجار الدّوالي بسرعةٍ وكانت نضرة تحلو للنّظر فالعمل حلالٌ والنّوايا طيّبة وصادقة وما هي إلا بضع سنوات حتّى أصبح الكرم"يرمي" قطوف العنب الفاخرة وأوراق الدّوالي النضرة اليانعة والّتي كانت تحفةً للنّاظرين.
وجاء أمر السّلطان أن يُعَيّنَ على حراسة الكرم عددٌ من"قبضايات" القرية الأشدّاء إذ لا يجوز تركه عُرضةً لهجمات الّلصوص والحيوانات البريّة الّتي "تهوى" الكرم وقطوفه خصوصًا...الدّببة والثعالب الماكرة، الّتي "تموت" في حُبّها للعنب!
ثُمّ أمر السّلطان أن تُوزّعَ أوراق الدّوالي وثمار العنب على الأهالي بالتّساوي خلال الموسم، ليطعموا عائلاتهم وليخزّنوا من مُستحضرات ثماره...إضافة إلى ما ينتجونه في بيوتهم من ألبان ولحوم وبيض!
بدأ الحرّاس يعملون بكلّ صدقٍ وأمانة، وكلّما حصل هجومٌ على الكرم من أعدائه الغزاة في الّليالي الحالكة...كبنات آوى مثلًا،
خرجوا بعِصيِّهم وخناجرهم وسيوفهم وبأدواتهم القتاليّة، فيطردوا الأعداء ويبعدوهم..مذعورين يلملمون ذيل الهزيمة، محافظين بذلك على حقوق أبناء بلدهم.
بقي الأمر على هذا المنوال لبضع سنواتٍ، والنّاس في سعادة كبيرةٍ من حرّاس الأمانة...ومن محاصيل الكرم حتّى بدأت الأوضاع تتغيّر، مع الزّمن، إلى الأسوأـ حيث أصبح القائمون على الحراسة...يسرقون ويحتالون على الأهالي الآمنين، مُتناسين واجبهم الوطنيّ وأوامر السّلطان ،متجاهلين الحكمة القائلة"يا مكيّل الزّيت في العتمة..ربّك عليك رقيب!". 
اتّفق الحرّاس فيما بينهم على"لطش" أفضل الغلال وأجودها لعائلاتهم ولأقربائهم، مُسَتّرين الواحد على سرقة الآخر ضاربين بحقوق الآخرين عرض الحائط...فهم القائلون وهم المائنون،والسّلطان بعيد عنهم...مُنشغلٌ بشؤون سلطنته.
أمّا الأصناف قليلة الجودة...فلأبناء الشّعب المساكين العاجزين الّذين لا حول لهم ولا قوّة إلا الإتكال على ربّ العباد!
انتشر أمر الناكثين بالعهد بين النّاس وكثر الّلغَط والأقاويل،دون أن يكون بمقدور أيّ واحد تغيير الحال...فلا يُغيّرها إلا مُدبّر الأحوال.
في إحدى السّنين ضرب وباء فتّاك حيوانات البلاد وطيورها، ولم يسلم منه أحدٌ من المخلوقات على اختلافها ولم تعد تجد أبناء آوى...وبناته ما تفترسه من الطّرائد...وشحّت الحال وقلّت الموارد وعمّ الجوع الكافر، فضعفت الأجساد و"احمرّت" العيون وأصبحت الثعالب تعوي كالمجنونة الخرقاء وأصيبت الحيوانات بالكَلَب ...فتجمّعت في إحدى الّليالي بمئاتها وراحت تردّد أهازيجها المعروفة عبر الفضاء الرّحب وهي تتقدّم...باتّجاه الكرم الّذي فاقت غلّته هذا العام كلّ السّنين وقد استوت أعنابه ونضجت وتدلّت من خلال أغصانه النّضرة، ممّا أسعد حرّاسه ودبّ فيهم روح البهجة والفرح!
كان هجوم بنات آوى شَرِسًا عنيفًا إلى حدٍّ كبير وقد صمّمت أن لا رجعة إلى الوراء أوعن التهام الثّمار...وكلّ من يحاول اعتراض دربها.
سمع الحرّاس، في حلكة الظلام، طبول الحرب من بعيد وقاموا كعادتهم للدّفاع عن كرامتهم...وعن حقوق الشّعب ولم يعلموا أنّ الأمور قد اختلفت هذه المرّة فحاولوا الرّدع والتّصدّي ،إلا أنّ الهجوم كان أكبر بكثير ممّا توقّعوه...فقد راحت الحيوانات تُزمجر كالأسود الضّواري وانقضّت عليهم لتُمزّقهم إربًا إربًا ولتجعلهم أشلاء في الفضاء...يتمرّغون بدمائهم على أرض الكرم...تحت أوراق الدّوالي وقطوف العنب...وهم يصرخون ويستغيثون ألمًا، ولات ساعة نجاةٍ!
كانت شراسة الإناث أعظم بكثيرٍمن شراسة ذكور الثّعالب، فقد هجمنَ في طليعة القَوم،كما يبدو حِرسًا...على إطعام أبنائهنّ!!
إفتُرسَ الحرّاسُ في تلك الّليلة واختفت قطوف العنب.لم يعلم أهل القرية بالمعركة الدّامية الّتى وقعت في تلك الّليلة الّليلاء داخل كرم العنب بالقرب من قريتهم.
ظهيرة اليوم التّالي كانت النّسور وطيور الأبابيل تحوم وتحطّ على جثث الحرّاس الهامدة والّتي تخضّبت بدمائها...تقطّع الّلحوم وتبتلعها بشغفٍ عظيم،وربّما كان بعضها ما زال فيه الرّمق الأخير من الرّوح، وشرايينه ما زالت تنتفض وهي تنازع الموت...وقد التهمتهم الطّيور أحياء.
أفزع طواف الطّيور أهل القرية فهرعوا لكشف ما حصل وقد ذُعروا ممّا شاهدت عيونهم وانشدهت عقولهم وأصابهم ما أصابهم.
وصلت أخبار ما حدث إلى السّلطان وانتشر الخبر في البلاد فبعث يطلب بعض أمنائه ليستفسر الأمر، ورُوِيَت له الرّواية من أولها إلى آخرها، فحمد الّله على بئس مصير هؤلاء الخوَنَة وبارك بطيور الأبابيل...الّتي تُلقي حجارة من سِجّيل...وتمزّق الزاائفين،ثم حضر إلى القرية وخطب في النّاس قائلًا:"إعلموا أيّها القوم أنّ الّله تعالى يُلقي بحجارةٍ"من ثعالب"،أحيانًا، على الكافرين والنّاكثين والخائنين بالعهود...وبارك الّله ببنات آوى الّتي أنقذتكم من السّارقين المارقين،واعلموا أنّ الحلال زائلٌ لا محالة، أمّا الحرام_ فهو وأهله!"ثمّ بدأ يتمتم في نفسه ويلعن هؤلاء الحرّاس...الّذين يشبهون إلى حدٍّ كبيرٍ بعض القائمين على مصالح الشّعب ومؤتمناته وتعليمه وثقافته...في أيّامنا!!
 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق