خاطرة السّيد " أنا "بقلم :نديم إبريق
2014-06-04 09:51:18
كنتُ قد خرجت ُ إلى التقاعد قبل مدة وجيزة ، بحيث بدأ المللُ يغزو حياتي رويدًا رويدًا ، فأصبحتُ أبحثُ عن كل شاغلٍ يُبعدني عن الروتين المقيت، أملأ فيه الفراغ . تذكرتُ فجأة بأن أحد أقاربي موجود منذ مُدة في بيت للمسنين في احدى القرى المجاورة ، فقرّرتُ التوجه إلى هناك ، لعلي أُخفّف عليه وطأة العُزلة التي فُرضت عليه من جهة ، وأتفحص المكان الذي ربما سيكون مأوى لي عندما يُداهمني العجز والوهن من جهة اخرى...
دخلتُ إلى الباحة الرئيسية لبيت العجزة ، حيث تواجد هناك عدد من المسنين ، أغلبيتهم أنهكتهم الشيخوخة والمرض والعجز ، فجلسوا على كرسي للمقعدين بسبب عجزهم عن المشي على أقدامهم. رأيتُ قريبي يجلس على كرسي كهذا ، فاقتربتُ منه وبادرتهُ بالسلام والاطمئنان على صحتهِ وحالهِ . بدأتُ بالحديث معه فاسترسل بطبيعة الأمر بإسماعي كلمات العتاب على أولاده الذين " ألقوا " به إلى هذا المكان ، وحدثني عن عقوقهم وعن قلة زيارتهم له وعن أصحابه الذين لم يزوروه منذ مدة وعن...
فجأة سمعتُ من خلفي صوتًا عاليًا. كان الصوتُ مُميزًا ومعروفًا لي من الماضي القريب- البعيد . التفتُ للخلف فرأيتهُ . دققتُ النظر فيه ، فقد ضعفَ نظري بسبب تقدمي في السن ، لأتأكد من الجالس هناك على هذا الكرسي ، لكن عندما سمعتهُ يقول بأعلى صوته : " أنا ..." تأكدتُ من شخصيته . نعم ، إنهُ هو ، ذلك العامل الذي كان يعمل معي في المصنع قبل خروجي إلى التقاعد ، والذي اعتدنا أن نطلق عليه لقب " السّيد أنا "...
كان هذا العامل رمزًا للأنانية ولحُبّ الذات ودائم الافتخار بنفسه وبأعماله وبتصرفاته. فإذا أكلَ ، مثلا، في مطعم ٍ كان غداة اليوم يجلس أثناء استراحة الطعام ويتباهى أمام العمال في المصنع : " أنا أكلتُ البارحة في مطعم ... وقد دفعتُ مبلغًا وقدرهُ... تناولتُ أشهى وألذ أنواع الطعام ، فأنا لا أتناول طعامي إلا في المطاعم الفاخرة ، وأنا لا أقتربُ من الأماكن والمطاعم الشعبية ، فأنا..."
وإذا اقتنى قميصًا جديدًا كان يحضر إلى المصنع ويبدأ يفتخر بما اقتناهُ : " أنا لا أشتري إلا الملابس ذات العلامات التجارية ، أنا أشتري فقط من المجمعات التجارية الراقية ، أنا لا أدخل اطلاقًا إلى الاسواق الشعبية الرخيصة ، أنا لا أشتري قميصًا واحدًا وإنما عدة قمصانٍ مرة واحدة ، أنا لا أشتري قميصًا سعره أقل من ..."
هكذا كان يتصرف دائمًا : كان دائم الاستعمال لكلمة "أنا "– عندما يُسافر ، عندما يقتني أثاثًا جديدًا لبيته ، عندما يشتري سيارة ، عندما يتحدث عن "بطولاته"، عندما يتحدث عن "انجازاته"...
ضاق العمالُ ذرعًا من هذا المدح وهذا الإطراء الذي يكيلهُ لذاته ، فاتفقنا في المصنع أن ننعته بلقب " السّيد أنا " : جاء "أنا" ، ذهَبَ "أنا" ، أكَلَ "أنا" ، اشترى "أنا"...
نظرتُ مرة اخرى إلى " السّيد أنا"، قمتُ من مكاني تاركًا قريبي الذي جئتُ لزيارته، واقتربتُ منه . كانت علامات الشيخوخة بادية جليًا على ملامح وجهه . قلت ُ له بصوتٍ عالٍ ، خوفًا من أن لا يسمعني:
- مرحبًا، كيف حالك ؟ هل تذكرني ؟
حدّق النظر بي ، تمهلَ قليلا ثم قال بصوتٍ هافتٍ :
- لا، من أنت؟ أنا ... لا أعرفك !
- الحمد لله ، الحمد لله ، هذه أجمل كلمة " أنا" أسمعها منك منذ أن تعرفتُ عليك !!!
***********************
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير