يكاد الواحدُ منّا أن يُصاب بالإغماء لهول الحالةِ الوضيعةِ - المُزريةِ الّتي آلت إليها الأغنية العربيّة بمضامينها وفحواها ، حالة نقلتنا من القمّة إلى الحضيض ، من متعة الاستماع والاستمتاع والمشاهدة إلى الاشمئزاز والنّفور ، فيجرفنا الحنين إلى أصالة الطّرب وروعة الإبداع ، إلى أيّام خلت ويبدو وللأسف بأنّها لن تعود...
من منّا لا يذكر النّشوة الّتي كنّا نشعر بها ونعيشها حينما كُنّا نسترق السّمع إلى عمالقة الطّرب والغناء في عالمنا العربيّ ، أمثال أمّ كلثوم وفريد الأطرش في مصر الكنانة ، وصوت فيروز الملائكيّ وعذوبة الصّوت الصّداح المنطلق من حنجرة العملاق وديع الصّافي في أرز لبنان ... كانت وستبقى أصواتهم الرّنّانة تجرفنا فنغوص في بحر عذوبتها ، لاندماج جمال الصّوت بسحر الكلمة وثراء المعنى ، فتتفاعل حواسّنا ونحلّق فوق واقعنا ونعيش مع الأغنية أجمل لحظات . إنّه الدّمج بين اللّحن والكلمة ، بين الواقعيّة والخيال ، بين الصّورة والصّوت ، بين الشّفافيّة والعمق... لقد افتقر هؤلاء العمالقة للتّقنيّات التّكنولوجيّة الحديثة وللأجهزة المتطوّرة ، ولكنهم كانوا أثرياء بصوتهم ، بحضورهم ، بثباتهم ، برزانتهم...
وكم هو مؤسف اندثار هذا العهد الذّهبي ، " العهد الفيروزيّ "، بكلّ جماله وسحره ، ليُعلَن عن ولادة عهد جديد ، لا أجرؤ حتّى بتسميته بالعهد الفضّيّ أو بالعهد البرونزيّ ، وقد تكون كنيته " عهد التافهات " أفضل تسمية مُمكن أن تُعبر عن سِمات وميّزات هذه الحقبة الزّمنيّة ، إنه عهد ما يُسمى "بالمطربات" أمثال هيفاء وهبي ... فقد يُسلب المستمع البسيط بلحن الأغنية وإيقاعها السريع ، ولكنّه سرعان ما يُدرك تفاهة الكلمات وخلوّها من المضمون – فهي كلمات مُقفّاة بدون مغزى أو فحوى ، فتعتمد "المطربة " بالأساس على زينتها ، زخرفتها ولباسها العاري ومنظرها الّذي أجرت عليه ما لا نهاية من عمليّات التّجميل ، ويكون اعتماد " المطرب " على الفيديو كليب ، الذي تظهر فيه حسناء - شقراء وسياّرة مبهرة للنّظر ، فيبهر هذا المنظر المشاهد - المستمع ، غير آبهٍ بضحالة الكلمات وركاكة الأسلوب وتفاهة المعنى – أن كان هنالك بالأساس معنى !!!
وممّا يُثير المقت بأن شبابنا يُردّد اليوم هذه الأغاني السّاقطة ويُسارع لشراء كاسيتات لهذه الأغاني الجديدة ويردّدونها عن ظهر قلب...
رُبّما يقول قائل : ما المانع في ذلك – ما داموا يجدون المتعة في ذلك ؟ قد يكون ذلك ممتعاً بالمنظار الضّيّق ، ولكن هذا الوضع سيّء بالمنظار العامّ ، لأنّ المسؤوليّة المُلقاة على المستمع لا تقلّ عن المسؤولية المُلقاة على المطرب ، تماماً كمسؤولية القارئ أمام القصّة الّتي يُطالعها والقصيدة الّتي يقرأها...
إنّ التّعامل مع الفنّ بكلّ جوانبه الإبداعيّة يتطلّب بالأساس التّمييز : نعم ، إنّه التّمييز بين الإنتاج الجيّد الّذي يتوجّب علينا تشجيعه ودعمه وبين الإنتاج السيئ الذي يتوجّب علينا نبذه والابتعاد عنه ، وتلك القدرة على التّمييز تتطلّب منّا المعرفة. فعلى سبيل المثال ، لو جلبوا لشخص ما رسومات : الأولى روعة في الإبداع الفنّيّ والثّانية رسمه ما هي إلا مخربشات وطلبوا من هذا الشّخص إبداء رأيه ، سيكون اختياره إمّا خاطئًا وإمّا مرتكزًا على التّكهّن أكثر من المعرفة ، لأنه لا يمتلك أدنى المعايير للتّمييز بين الجيّد والسيّئ. كذلك الأمر بالنسبة للتّمييز بين الطّعام الجيّد والسّيّئ ، القهوة ، اللّباس...
لقد آن الأوان لوقف هذا المدّ الجارف الذي أوصلنا إلى الحضيض الفنّيّ ، وأُكرر بأنّ المسؤولية تقع أيضًا على كاهلنا كمستمعين . تعالوا نبحث عن " الفيروزيّين " في "عهد التافهات " ، هؤلاء الذين إذا غنّوا تفاعلت معهم جميع حواسنا : نسمع فتشنف أذاننا ، نتذوّق فنشعر بحلاوة الطّعم وننظر فنِعمَ المنظر... تعالوا نشجّعهم فهُم الأمل بعودة الرّكب إلى المسار السّليم..