هل تأخّرنا بالرّحيل يا باسم؟ دينا سليم - أستراليا
2014-01-22 10:45:21
ابني (باسم)...لم تكن فقط ذات الأقواس بيوتنا، ولم تكن الكنائس وجهتنا، ولا الأرصفة ولا المجمعات، ولا الحدائق، ولا جميع الأماكن الجميلة فقط، لقد كانت آخر طلتنا معا، أقسام المشافي ونحن نصغي إلى وقع خطواتنا التي مهما جعلناها هادئة بقيت مسكونة بالورع، بأعين مسكوبة بالدّمع ارتدناها، هي ما كنا عليه طوال المدة الأخيرة التي مضت.
وجاء اليوم  الذي امتطينا فيه باخرة الرحيل معا، هل تذكر تلك الأيام؟ سكنا في محطات جميلة، وغنينا مواويلا لم يفهمها غيرنا، وكان همنا الأخير أن نكتب على صفحات بيضاء آخر وصايانا، وكتبنا كالمجانين هذه الجملة ( سلاما على صحة الأغبياء الذين تركونا، سلاما لكم، وحسنا فعلتم)، وشربنا أنخاب وجودنا جميعا معا مثل عائلة محبة متماسكة، فكنت لكم الأب قبل الأم، ضحكنا طويلا، ورقصنا، واعتدنا ارتياد ذات المكان كل سنة حيث ذهبنا إلى ذات المقهى المشرف على النهر، لكي نحتفل بعيد ميلادك، ونستذكر أول هدية اقتنيتها لك هنا في أستراليا، كانت مجرد هيكل  لحيوان غير مألوف، حمل رأسا مضحكا، وعينان ضاحكتان، هدية صغيرة بقيمة دولار واحد فقط، اخترتها لكي تضحك كثيرا، ولكي تسخر مما لا يشبهونك بعزيمتك وقوتك.
هل تذكر ماذا قلت لي أول يوم وصلت فيه إلى (بريزبن) المدينة التي أحببتها كثيرا فيما بعد، سأذكرك إن كنت قد نسيت، ( إنها لا تشبه سان فرنسيسكو)، أعلم أنك أحببت (سان فرنسيسكو) أكثر، لكنك وفي اليوم الرابع لوصولك سمعتكَ تغني، وربما هي المرة الأولى التي أسمعكَ تغني فيها، خرجت الأغنية من أعماق أعماقك، حينها ارتاح قلبي لأنك قررت أن تبقى بجانبي وتساعدني في محنتي  كرجل شجاع أعتمد عليه، لأنه كان من المستحيل أن أعود من حيث رحلت، لن أعود إلى البؤس مجددا، وكان من المستحيل أيضا أن أتركك تعود إلى الوطن بدوني، فأصررت على بقائك معي، في ذات النهار أصبت بوعكة صحية، أسرعتُ إليك وأطعمتك حبة عنب وأسقيتك شرابا حلوا حتى توازن السكر في جسدك المريض وعدت إلي الحياة مجددا، وتتالت الوعكات، واختلفت أنواع الضربات فيما بعد، صمدت وتعندت وعاندت القدر، رفضت دخول المشفى بداية، لكني أقنعتك من أنه لا بدّ من تكملة العلاج من حيث توقف الأطباء في (هداسا)، أو لنقل، من حيث غسلوا أيديهم منكَ ... لكن أخبرني الطبيب أننا تأخرنا...
نعم لقد تأخر القرار بالفرار كثيرا، تأخرنا فعلا لكي نرضي الآخرين الذين حكموا علينا بالموت ونحن ما نزال أحياء، الآخرون هم الجحيم، هم السبب في المرّ الذي أطعمونا إياه، جبروتهم لم تخيفنا، (هم يعرفون أنفسهم)، لكننا رحلنا أخيرا بعد انتظار مقيت غير مجد، لو ...لم نتأخر لكنت ما تزال على قيد الحياة، ربما! لكني استطعت أن أضيف إلى حياتك ثماني سنوات أخرى، والمهزلة الكبرى هي أنك رحلت بذات اليوم الذي وصلت به، يا للمفارقة... لقد عشنا معا هذه السنوات الجميلة بحلوها ومرها، تقاسمنا ما بيننا كل الفرح وكل الحزن أيضا، رغم مرضك عشت سعيدا مرفها مرتاحا، في بلاد تحسن معاملة الإنسان، خاصة إن كان هذا الإنسان يعاني، أصدقاؤنا الأستراليين ودعوكَ يوم رحيلك، طبيبك الخاص جاء ليلقي نظرة أخيرة، وصديقك الحميم (لوري) بكى كثيرا على قبرك، لقد فعلتها وذهبت، حتّمت رأيك بأن أقوم أنا بدفنك، يا للعنة الأمومة! ما كنت أتهرب منه دائما ها قد حصل. لقد فعلتُ ما طلبته مني وما زالت كلماتك تطن بأذني (لا أريد أن أدفن بالكنيسة الشرقية، أنا أخاف منها) استرح يا بني، استرح يا أغلى الناس، لقد اخترت لك مكانا يؤمه الأمراء والملوك فقط، استرح ولتسكن روحك لدى ملائكة الرحمة، فمن آمن بي وإن مات فسيبقى حيا.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق