إنّها تضيق
2008-12-15 19:32:39
ثمة كذبة جديدة  تتسع وحقيقة قديمة تضيق..
"لو صحّ ما تخمنين فيه، فلا شيء صحيح إذن"
أرددّ في خاطري وخطواتي تكنس شارع ديدوش مراد ببطء، بالكاد أصنع لي مكانا في الطريق.الشارع يضيق..
أرفع رأسي المثبت في الأرض منذ عبورات وأحدّق في العيون، لا عينَ تـُقاطع عيني. وحدها الأكتافُ تتلامس وتتنافر و همهمات اعتذارات آنية تتلاقى وتتبخر في حينها.
الوقت يضيق..
صباحات ديدوش خانقة ووجهي الذي أحمله بين حاضنتيْ عمر يصنع شيئا من اختناقها.
أنفاسي تضيق..
أجرجرني إلى محطة أودان بعد أن أصعد السلالم التي تنبعث منها رائحة قذارة وأتجاهل صوت المرأة التي تمدّ لي يدها و ابتسامة بائع الكتب القديمة الذي أصبح يعرفني.
قلبي يضيق..
محطة كل الاتجاهات: حيدرة وباب الوادي، الأبيار و المدنية، المرادية و بئر مراد رايس..تتسعّ لتضيق..
هذا الصباح حزين، حزنه أكثر من أن ينجح عقلي في القبض على أسبابه و فهم طبيعة الكرة التي تحطّ على صدري و تمنعني من الكلام أو الحركة إلا بما تستلزمه الحاجة.
الحقيقة تضيق..
أمدّ يدي إلى الجيب الخلفي لجينزي وأسحب الموبايل الأخرس. أبحث عن رسالة منسية أتت من بعيد أو مكالمة لم أنتبه لها..لا شيء..وحدتي تتسع، أملي يضيق..
صوت يشدّني ويشدّ كل من في الشارع، تطل هياكل من الشرفات وتشرئب أعناق
وتتطاول أجساد لترى مصدره. يقترب الصوت مني أكثر حتى يحاذيني:
تحيا الديكتاتورية، يحيا الظلم، يحيا الجنرال(س)، يحيا الجنرال(ع)، يسقط الشعب."
الرجل الخمسيني الذي يقف جواري ويحدّق في الوجوه بعينين متقدتين، يصوّب يده إلى المقاهي المتجاورة والمتقابلة و المتوالدة مثل فطر و الملآى في مثل هذه الساعة وكلّ وقت. ينطق بصوت رزين هادئ وقوي:
تسقط يا أيها الشعب..كم أنت رخيص!"
تتحرك الرؤوس في أربع اتجاهات. شرق يصدّه غرب وجنوب يصدّه شمال. تُمَصمَص الشفاه و تعضّ بعضها ولا أحد يردّ..اللغة تضيق..
يمضي الرجل ذو البذلة البنية والمعطف الأسود واللحية التي تبيّض و العينين اللتين نظراتهما تضيق..تتسع الهمهمات ويصّاعد لون تعب، يمتزج بلون سماء أول الربيع.. أو سماء آخر الشتاء..  ثم ينزل على خاصرتي يدين تقبضان وتضغطان. تنز مني دمعة أقتلها خلف نظارات سوداء و أكتم صرخة..
الوطن يضيق..الوطن يضيق..!
وحده فستان الشيفون الأحمر، الذي أمضيت وقتا أجمع المال لأشتريه، أضحى أوسع من مقاسي بكثير أو أن..جسدي أيضا يضيق..
تسارع البائعة وهي تثبت دبابيسها على الكتفين وجانبي الخصر:
- سنعدله وفق مقاساتك الجديدة..
- لا أريده، كرهت الأحلام المعدلة.
فتحت حقيبتي، نظرت إلى الأوراق المالية التي أخذت من وقتي و جهدي الكثير، وبصقت فوقها.
تطايرت من حقيبتي فقاقيع كبيرة، بداخلها وجوه وأسماء و أمكنة وأزمنة و ذاكرة عمر يضيق...
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق