مزار الشّيخ محروم ...ابن "المحروميّة " ،بقلم :شريف صعب ـ أبوسنان
2013-11-23 00:45:45
مزار الشّيخ محروم ...ابن "المحروميّة " ، قصّة قصيرة : بقلم :شريف صعب ـ أبو سنان .
تبادل المُعزّون القلائل ، الّذين تجمّعوا في ساحة مقبرة القرية، تبادلوا نظرات شكٍّ وارتياب وكانت نظرات بعضهم مشوبة ببعض الخجل مع شيء من السّخرية والتّهكّم وبدت بسمات خفيفة على شفاه بعضهم . غريبة كانت تحرُّكاتهم وهم واقفون في باحة المقبرة ينتظرون وصول نعش ابن قريتهم، "محروم"، وعلى الطّريق المؤدّي إلى المقبرة توجَّه بعض السُّكان وهم يسيرون في شيء من الإحباط والتّردّد البارز وخطواتهم كانت  كخطواتي أنا ، " خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الوراء...!" فكلّ من أتى لهذه الجنازة تردّدَ وكأنَّه " مشحوط شحطًا " لأداء واجب لا أحد مسؤولٌ عنه إذ لم يكن للفقيد ... من يبكي على فقدانه .
في نظر المشاركين وأهل القرية عمومًا لم يكن محروم أهلًا للمشاركة في جنازته، إذ أنه كان جلَّ حياته رجلًا لا رحيمًا ولا شفيعًا له ، فقير الحال يلبس - عادة – ثيابًا  رثّه تعلوها طبقة سميكة من الأسمال الملوّثة ، قبيح المنظر مسكينًا كأنّه وُلد من حجر !!  لم يُثر شكله احترامًا في قلوب النّاس ، فهو ذميم المنظر بارز العينين .. مع انحرافٍ ما في أنفه إلى اليسار ... وعادة ما كان يلبس كوفيّة سوداء على رأسه تغطي نصف رأسه الخلفيّ وتبرز صَلعًا في مقدّمته  ؛ إنّه لم يتزوج ولم يكن له أبناء،  عاش حياته مُهملًا بعد أن ألقَوا به أخوته ، زعماء القرية ، في الشّارع دون خجل ٍ أو وجل كما يُلقى فرخٌ ضعيفٌ من العشّ وأسكنوه خارج حَوش بيتهم الفخم ... بقبوٍ للدّواب ، لقباحة منظره ، "كالشّيطان " كما كانوا يقولون !!
كثيرًا ما كان البعض يرددون النّكات حوله ، من دافع السّخرية "كأبي حمد" المهرّج الّذي دائمًا عندما قال أحدهم أمامه أنّ محروم لم يتزوّج ولم يُنجب أطفالًا، كان يقول: " لا خلّف الله من الكلاب ...!" فيضحك كلّ من حوله ؛ أو "أم صلاح" الّتي قالت بعد أن عُلم ذات مرّة أنّ محروم رُبّما سيموت لأنّه مريض ٌ:
"موت الحمير فرج ٌ للكلاب... !!" فيُقهقه الحاضرون... !!
هكذا كانت تدور الأقاويل الكثيرة حول  محروم  الّذي لا أحد تقريبًا يعرف اسمه الحقيقيّ من أبناء الجيل الصّاعد في القرية ، حيث أن أباه أسماه  " قاسم " إلّا أنّ السّكان لقّبوهُ "محرومًا"... لحرمانه من ميراث أبيه !!
مع كلّ ذلك فقد كان محروم هذا رجلًا طيّبًا ، قليل الكلام ، حسن الأخلاق لم يؤذ ِ أحدًا في حياته ، بل بالعكس فرغمَ شظف عيشه تقبّل ما هو فيه وكان ليّن العريكة مخلصًا ذا أخلاق طيّبة ، راضيًا بما كتبه له الله وكم كان يحمد ويشكر عندما كانت "أم خليل" تحنُّ عليه، هي وزوجها وتُحضر له أحيانًا صحن "مجدّرة" أو صحن "مرقة ديك دجاج" أو "منقوشة ساخنة" عن الموقد عندما كانت تخبز صباحًا، وذلك من باب الشّفقة . كم كانت فرحته كبيرة مع شيء من الخجل عندما كانت" أم خليل" تكرم عليه !... كان يموت فرحًا من شدَّة حبّه لصحن مجدّرة  مع لبن ماعز!
  كان محروم يعتاش على بعض اللّيرات التي كانت تصلهُ من مؤسّسة التّأمين الوطنيّ ولشدّة قناعته ... كان يحمد الله دائمًا على نعمه !!
أحبّ محروم النّاس وأحبّ مساعدتهم ومن صفاته الحسنة أنه لم يرَ "قمامة" في الشّارع الّذي كان يمشي فيه إلّا وأزالها ... رغم عدم اهتمامه بنظافة ثيابه هو؛ وعندما كان يرى امرأة تجرّ عربة طفلها وتحمل، مثلًا ، سلّة  في يدها ، كان يركض ليحمل عنها ويساعدها حتّى باب بيتها ؛ وإذا مرّ بجانب أحد السّكان وهو يعمل أيّ عمل كان  ،على الفور، يشمّر عن ذراعيه ويشرع بالمساعدة  دون قيد أو شرط ؛ وعندما رأى أبا صابر يحفر بئرًا في ساحة داره لخزن ماء المطر ساعده أسبوعًا كاملًا دون مقابل ، هكذا لوجه الله .
 حقًا لم يكن أطيب من نخوته رغم قبح منظره ...!!
كانت وفاته بنوبة قلبيّة قد فاجَأت جميع سكان القرية، إلّا أنّها لم تكن مهمّة أو مثيرة لكونه فقيرًا ذميمًا لا يؤسف
 عليه !! حصل ذلك في منتصف كانون الأوّل من ذلك العام الجافّ ... حيث لم تمطر السّماء ، حتّى الآن ، أبدًا ممّا أثار قنوط وخيبة المزارعين ، فإذا لم ينزل المطر سوف يذهب ،بالنّسبة لهم، الموسم الشّتويّ وسيخسرون كلّ شيء. كانوا يصلّون ويبتهلون جلّ أوقاتهم ، هم وجميع النّاس كي تنزل البركة من عند ربّ السّماء ولكن كيف !؟
 ها هم قد بدأوا بقطف ثمار  الزّيتون ... دون أن يتشتّى وينظف من غبار وأوساخ الخريف . لقد استبشر المواطنون شرًّا من انقطاع المطر هذا واكتَأبت وجوههم ... إذ أنّ حياتهم تعتمد ،في الأساس، على المحاصيل الزّراعيّة !
كانت جنازته في الثّانية عشرة من ظهر ذلك اليوم الّذي انبلج على زوابع وعواصف شرقيّة خريفيّة  شديدة ... وحصلت المفاجَأة ، حيث هدأت الرّياح –تمامًا- في السّاعة العاشرة صباحًا وبدأتِ الغيوم تَتَلبّد وتغطّي وجه السّماء رويدًا رويدًا، حيث صعدت من كلّ الجهات ثمّ علت أصوات الرّعود القاصفة وبدأت أنوار البروق اللّامعة تظهر في سماء القرية " المحروميّة " ، بشكل لم يسبق له مثيل! تلبدّت الغيوم السّوداء المُثقلةُ بمياه المطر الّذي ،"بقدرة قادر ٍ" ، جرفته الرّياح من البحار .
كان المُعزّون ما زالوا ينتظرون وصول نعش "محروم" . بعد دقائِقَ وصل النّعش محمولًا على أكتاف بعض الشّباب الّذين هم أيضًا،  حضروا الجنازة خجلًا . لقد انبهر جمهور المؤبّنين القليل عندما شاهدوا مجموعة من الطّيور المُزركشة الألوان وهي تطير فوق النّعش وتترغل بأصوات لم يسمعها أيّ بشريّ ٍ من قبل . يا لها من طيور غريبة تشبه طيور الجنّة . خلال دقائق ووريَ النّعش التّراب دون أن يعزّي أحد ٌ أحدًا لبرودة الجوّ، حيث لم يوجد من يُعزّى بالفعل. كانت الطّيور تحوم فوق قبر محروم خلال دفنه ثم تعود لتحوم فوق رؤوس المعزّين، ترفع وتُخفض بأصواتها السّاحرة ، وكأنّها تريد أن تؤدّي لهم رسالةً من السّماء .
 بدأ المطر يهطل بقوة ٍ عظيمة وعلا السّيل العرم شوارع القرية وأزقتها وامتلأت الوديان المحيطة وفاضت على جوانبها ... وقال الكريم " خذوا مطرًا !"
 اِمتلأت السهول وانبهرت العقول واغتسلت أشجار الزيتون . بعد أكثر من ساعةٍ خرج السّكان إلى الشّوارع يهتفون ويتضاحكون ، يغنّون ، يرقصون ويشكرون ربّ العالمين، ثمّ راحت الحشود المجتمعة تهتف بأعلى صوتها مُترحِّمة على روح فقيد القرية محروم !! بعد ساعة خفّ المطر ووقف شقيق المرحوم " سالم "- مختار القرية- على حجر وسط  السّاحة المركزيّة ثمّ ألقى خطبة على موت الفقيد ، حيث لم تُلق الكلمات عند الجنازة ، وراح يترحّم على روحه والجماهير تردّد من بعده :
" رحمة الله عليك يا محروم !" عشرات المرّات " يا مَن بموتك جلبت لنا الخير ...!" ثم أمر سالم بأن يُبنى قبر محروم على الفور ليتحوّل مزارًا لأهل القرية  ولتصبح القرية بعد ذلك "المحروميّة " على اسمه ..." لأنه لا شك من الأولياء الصالحين !!"
 كان ذلك موقفًا تاريخيًّا اجتمعتُ  بعده وبعضَ أصدقائي ، في بيتي،  لفهم ما جرى وكانت عيوننا تتصبّب دموعًا  على الفقيد، ولقد خجلنا من أنفسنا ومن نظراتنا الخاطئة إلى الأمور وكيف أنّ الجميع سار إلى الجنازة قسْرًا  . لقد حصل محروم في مماته ، على ما لم يحصل عليه في حياته ؛ لطيبة قلبه ولحُسنِ نواياه وأصبحت قريته المحروميّة قبلة ً لسكّان المنطقة وقبره مزارًا  تُضاء به الشّموع كما لكبار الأولياء الصّالحين !!!.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق