كيف تم خلق العالم ؟ بقلم كميل فياض
2013-10-11 01:25:21

استكمالا لسلسلة المقالات السابقة في مواجهة اشكاليات المعرفة بحقائق الوجود الكلية ، ولا اقول جزئية وكلية ، اذ ان ذلك مستحيل ، ثم غير ضروري ، كما يتبين في ضوء التحقق العرفاني التجاوزي . فلا  حاجة لفحص مياه البحر كله لدراسته عندما تكفي قطرة او عيِّنة .. وانت قطرة من بحر الوجود اللامتناهي انفصلت عنه وهميا وسيكلوجيا بعوامل عرضية . إعرف نفسك تعرف الوجود كله وستراه من ضمن ذاتك ..
المعرفة التحققية تقتضي مواجهة كل إشكلاتنا النفسية والفكرية الظاهرة والخفية .. وكم في حياتنا اليومية من الممنوع على التفكير ، ومن المحظور على الاستشعار . ولا اقول التعبير الصريح ، ولا اقول الدرس والتحقيق العلني .. ان انسانا يحيا ولا يجرؤ على مواجهة نفسه حتى النخاع وفي وضح النهار ، لهو اتعس الكائنات ،  هو مملوك لسواه ليس له ذات ..لأن ذاته من خلق ومن صنع الآخرين . ولك ان تتصور من اي خالق ومن اي صانع انت اتيت ، حين تنتبه الى ان وراء جيلك اجيال مخلوقة مثلك ، تناسخت بعضها وتوارثت اقنعتها حتى وصلتك بحلتها وصرختها الاخيرة ، وانت على العهد ماض من الماضي الى المستقبل ،هذا المستقبل نفسه الذي اعد لك سلفًا .
والآخرون كثر .. هم اكثر مما يمكن احصاءهم ، ومعظمهم فارق الحياة ، واندثر في غيابات الماضي السحيق ، وقد ترك لأبناء الحاضر ما قد اخفى كل حضور عنهم ، لأنهم مشغولون بتلك التركة من عادات وتقاليد وافكار ومفاهيم ومصطلحات وتوجهات . لدرجة انه يمكن القول ان انساننا عموما يعيش بالكلية في الماضي ، ولا شيء من حاضره  سوى روح مثقل وعقل مقفل ونفس مسحوقة باحمال الماضي ..  وعندما اقول ماضي انا لا اقصد فقط ما يُعتبر رجعي تخلفي تقليدي كما بالاعتبارات الطبقية والثقافية ، لا بل اقصد (بالماضي) كل ما هو معروف وقابل للمعرفة بنفس المنطق الذي عرفنا عن طريقه انفسنا وواقعنا ..الماضي هو الزمن المستهلك المتكرر ،على الدوافع البدائية ذاتها من خوف وانانية وطمع .اي من جهل بالذات الحقيقي فينا .
هذا المنطق الانساني الهاجس دائما بطلب الامن السيكلوجي الفيزيقي والميتافيزقي .. فمن الصعب ان تجد انسان لا يستمد علاج قلقه تجاه المستقبل من الماضي .. من عقيدة معينة ، من ايمان بمثال ، من تمسك بنموذج للمحاكاة ، من طلب ملجأ خرافي او رومنسي لمشاعره المعذبة ولأعصابه المتعبة الخ ..
المنطق الذي خلق ويخلق العقائد والاساطير والفلسفات المختلفة لكي يعيش فيها بسلام  وامان في الحاضر مع ضمانات مستقبلية  بعد الموت ..هذا المنطق الذي ندجن اولادنا ونربيهم عليه ونزجهم في قوالبه  لكي ينجحوا في الحياة ويكونوا انانيون اقوياء ومنافسون اذكياء في اسواق الحياة المختلفة – مع رضا الله ايضا لضمان الآخرة  - هذا المنطق هو الذي حاولت ولم انفك احاول تفكيكه للكشف عما يقف وراءه من حقائق .
وفي الواقع انت لا تحتاج في سبيل ذلك الى مواجهة العالم كله والتاريخ كله – كما اسلفت – خذ نفسك ولا تنفك عن تأملها ومراقبة سلوكها الداخلي الخفي والعلني على حد سواء ، انظر اليها بعين من يقف خارجها وكمن لا علاقة  له بها ، وانظر ما الذي تريده دائما ولماذا .. ما هي طبيعتها ..؟! هل هي حقيقة وجودية صلبة تتجاوز اللحم والدم .. ام هي واهية ضعيفة كلحمها ودمها بين انواء ونيران ورياح وامطار وصخور ومعادن وزمن متدفق وجارف ؟!
اعرف الثمرة قبل غرس الشجرة ، قبل ان تتبنى عقيدة وايمان .. قبل ان تسلك طريق ، اعرف من اين والى اين .. من ذلك وفي ذلك خضت بحر التساؤلات والقراءات حول العالم وخلق العالم وخالق العالم .. وانتهيت الى ان هذا العالم ليس له خالق كما تصوره الاديان السماوية . ليس له مصمم مهندس مقدر وواضع اهداف ..
ان ما يسمونه الله هو وعي محض مطلق غير محدود ولا متناه ، وهو يتجاوز كل مفهوم ، بما في ذلك كلمة وعي ، وأستعملها لأنها اقرب الى الحقيقة ، لأن شيئا لا يخرج عن الوعي لكي يوجده ويوجد به شيئا ..
فهو اصل الوجود والموجودات ، وفي بساطته التي لا تنقسم ومن مادته الازلية ولد الزمن، ماض حاضر ومستقبل .. الوعي حضور ابدي ، ازليته عين ابديته والعكس صحيح  . ولأن فاقد الشيء لا يعطيه فان الوعي الذي يُصدر هذه المصطلحات ، هو لم يكتسبها في مدرسة  ويتمرن عليها لتصبح صفة معرفية فيه ، بل هي طبيعته ..  يبقى السؤال كيف خُلق العالم بكائناته التي توحي بقوة الى عقل مصمم يقف خلفها .؟
وهنا لا بد من التحول الى مثال من الطبيعة الى جانب الحدس والرؤية الباطنية ..
طبعا مثلما توجد اسباب كثيرة لاقناعنا بوجود عقل مصمم خلف العالم ، توجد ايضا اسباب متعارضة داحضة .. اما الذي يحشر المنطق الديني السماوي في الزاوية بالذات ليست الاسباب المتعارضة الداحضة من قبل الطبيعة ، بقدر التي اتت بها الاديان نفسها بمنطقها العاطفي ،الذي يحتاج الى خالق ملائم لاصحابها واتباعها
.. فلا يكفي ان يكون الخالق قوة ذكاء هائلة لا توصف ، بل يجب ان تتصف هذه القوة بالرحمة والعدل والخير والرأفة واللطافة الخ . وهذا هو وجه تهافت الاديان وضعفها امام الواقع ،فالمؤمنون يخلقون الخالق على مثالهم وحسب حاجاتهم  ، بينما الواقع لا يدل على وجود هذا الكائن المحب والرحيم واللطيف والعادل . وقد يكون ارباب رؤوس الاموال واصحاب الشركات التجارية والصناعية اقل قسوة واقل لا مبالاة بعامليهم وعاملاتهم من خالق الاديان السماوية . في كل الاحوال الديانات جاءت على يد من جاءت لطفولة البشرية ، وآن الاوان ان نكبر وننضج ونتحول من منطق الايمان الطفولي ( الترغيبي والترهيبي ) الى منطق العرفان الاختياري الحر والتحققي .
لو كان هناك مَن صمّم هذا العالم وهندسه وقدّره وراقبه واعتنا به  بوعي ارادي حازم ومسبق ، لما صار العالم الى ما هو عليه . بل ان القوى المدمرة فيه – سواء من الطبيعة ومن البشر – تستبعد ان يكون ذلك "الخالق" وراءه ، ومن اللحظة الاؤولى لمعرفته .. بل ان المنطق الذي توحي به الطبيعة ويوحي به السلوك البشري عبر التاريخ ، ان ثمة قوة خالقة ، لكن بدون ارادة مسبقة وبدون تخطيط وتصميم وغائيات ، ولأن هذه القوة الخالقة هي محض وعي ومطلقة ، جعلت المادة المرافقة لها ازليا وابديا تنخلق وتنبدع وتتشكل وتتكون بقوة الوعي عرضيا ، وبحسب القابلات والمكنات الكامنة في المادة . وما الخلق سوى ظهور من كمون بتحريض من طاقة الوعي الناشطة بصورة عفوية ، تماما كنواة النخل والزيتون وبذور النباتات التي تطوي فيها صفاتها الاساسية ، وتنبت بتحريض من احوال جوية مناسبة  .. وقد انتجت علاقة الوعي بالمادة مثالات في الكون – في كلياته وجزئياته في المجرة حركة وشكلا ، وفي قلب الذرة كذلك – ما يشبه الحتمية القاطعة  لهذه العملية القائمة دائما ، كصيرورة عائدة على نفسها بتشكيلات غير محصورة وغير معدودة ولا محدودة .. ومن المثالات الطبيعية لعملية الخلق : الشمس والفصول .. فالشمس تبخر مياه البحار ومن خلال انخفاضات وارتفاعات الحرارة الجوية المتسببة من حركة دوران الارض بعدا وقربا من الشمس . ينعقد البخار غيما ، ويساق الى حيث يساق ومع تبدل في درجات الحرارة تزداد كثافته حتى يتحول الى قطرات ماء ويتساقط  ليجري معظمه ويعود الى البحار وهكذا دواليك .. ان كان بامكاننا ان نقول ان الشمس خططت وصممت وهندست كل هذه العملية بتفاصيلها ونتائجها بصورة مسبقة . بامكاننا ان نقول ان ثمة مخططا مصمما مهندسا وراء الطبيعة .!
عفوية الخلق دون تصميم مسبق وبقوة وعي نترال حيادي لا يتدخل الا بقدر ما يحوّله القابل المادي لذلك ، ويجعل منه انا خاصا او نوعا عاما او جنسا . كالنحلة مع العمل السداسي المذهل في دقته في الشمع ، وكاقدام الصرصار حين يترك آثاره على الرمل مثلا دون ان يخطط لذلك وكأنه ابرع المهندسين ، وكالمياه المتجمدة عبر مئات السنين في الكهوف كعمل فنان ممتاز ، كذلك الوان الطيف عبر منشور .. كل ذلك وسواه يحدث دون تخطيط وتصميم مسبق من قِبَل قوة خارجية .. هكذا ولد الله الخالق الشخصي من داخل الوعي في الانسان ، بمقاييس بشرية عليا ، بحسب صفات الانسان وحاجاته  النفسية والمنطقية .. غير ان الله الحقيقي ليس شخصا يسكن في مكان ما خارج الوجود الطبيعي والكوني ، بل هو كل شيء كل ما ظهر وبطن ولا يوجد سواه ، هو جميع البشر ، لكنه لا يُعرف ولا يظهر الا في الوعي المستنير به ، عند سقوط جميع الاحجبة عنه  .. ليس هو  يسوع او كرشنا او بوذا وسواهم من المشهورين فقط . بل هناك بضع ملايين هم بمثابة بوذا وسقراط ويسوع يعيشون بين الناس ،والناس لا يعرفونهم لانهم لا يعرفون انفسهم .ولو تسنى للناس جميعا الاستنارة بسقوط الاحجبة عن وعيهم لادركوا الله فيهم جميعا . فلا شيء الا هو .. وحينها عمليًا لا يعد لا انا ولا هو . فهي مجرد مصطلحات فكرية وجدانية ايمانية حجابية .

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق