الروح طفل ذكي، وحقيقة الوجود ، حديقة لنزهة عابرة بقلم كميل فياض
2013-04-25 12:38:46

الروح طفل ذكي، وحقيقة الوجود ، حديقة لنزهة عابرة  ..

حاولت في المقال السابق ان اكشف عن المشكل الاساس في حياتنا جميعا ، وهو يختفي ويسري وراء وداخل جميع المشاكل التي نواجهها في حياتنا .. انه القلق والخوف من المجهول ،الذي يطوي فيه كل الاحتمالات المدمرة والمنهية لوجودنا على المستوى الحسي والشخصي وفي اية لحظة .. وعرضت للحلول التي يلجأ اليها مختلف الناس لمواجهة هذا المجهول .. كالدين والثقافة والفن والرياضة وسواها . واعتبرتها جميعا أنواع من المخدرات النفسية والمادية ..وصرحت باني لا اقتنع بها جميعا لأنها لا تعطي حلا شافيا ومباشرا لمشكلتنا الوجودية في الماهية والعمق .. هذا رغم توسلي لبعضها ،كالكتابة كوسيلة تعبير وتوصيل رمزية ..  وانتهيت الى فكرة الروح باعتباره الشيء الوحيد في بعده الوجودي المختلف كليا عن سائر الابعاد الوجودية الحاضرة والممكنة في كل زمان ومكان . لكني بدوت وكأني استدعيت الروح من الذاكرة الزمنية كمجرد فكرة وكحل عقائدي جاهز ، كما يفعل اتباع العقائد والايديلوجيات الدينية المختلفة . غير ان الامر مختلف واختياري لهذا الاسم او لهذه الصفة ( روح) هو في كل الاحوال اختيار لرمز ولرمز معروف مليء بالحيوية والايحاء والمغزى في الاتجاه الذي اقصد .. اما هو – اي الروح – كمعنى وككيان قائم فعليا ،يتخطى التعريف والتحديد ،ولذلك ربما جاء في القرآن " ويسألك عبادي عن الروح ، قل الروح من أمر  ربي ، وما أوتيتم من العلم الا قليلا " اي اولا ان علم الروح من اختصاص الله الذي هو (الروح الكلي المطلق) ثانيا ان كل ما نعلمه بالعقل يعد قليلا الى جانب ما يمكن ان نعلمه بالروح .. ولا نزال في فضاء القرآن الوسيع حيث يقول : " يهدي الله لنوره من يشاء" .. ومن يشاء المقصود بها ، من يشاء من البشر ويرغب ويريد صادقا ، وليس المقصود كما فهم ويفهم "الجبريون" حصر المشيئة بالغيب وقصرها عليه .. وهل الروح إلا  شيء من وجود الله . كما تجلى لبعض صوفيي الاسلام ولمستنيري اليوغا .. وفي الحق اجد نفسي في خلاصة جميع الاديان ،في الفيدنتية الهندوسية ،وفي جوهر التعاليم البوذية ،وفي التاوية الصينية ،وفي الزينية والشانتوية اليابانية ،وفي الهرمسية التوحيدية ،والافلوطينية ،وفي الكابلا العبرية ،وفي اقوال يسوع العرفانية ،وفي جميع الذين استناروا بالحق وبالكشف عن سر وجودهم  .. وهؤلاء تجدهم في مختلف الازمنة  ومختلف الشعوب والطوائف والمذاهب ، فيشكلو  روح واحد كلي كوني تجاوزي .. وان تسأل عن ديني فهذا هو ديني دين الروح الواحد في الكل .. هذا الروح الذي يحوي في ذاته جميع القيم الاخلاقية والجمالية والعلمية والوجودية . وعندما تطلب الحق وترتفع قاب قوسين او ادنى عن حواس الجسد والفكر ، اي عندما تنظر الى ذلك بعين الروح فيما يتعدى الخيط الفضي للفكر، والحبل الوريدي  للقلب ،ستكتشف انك هو .. كما اكتشف ابا يزيد البسطامي ذلك حين قال : "انسلخت عن جسمي كما تنسلخ الحية عن جلدها ونظرت الى نفسي فاذا انا هو" .. ان هذا الروح يُدرَك بالحدس وبالبصيرة  والاشراق والكشف الداخلي المباغت ،اثر الطلب المُلح ، حيث يرتفع النظر الداخلي الى ما يتخطى المعطيات الحسية والفكرية ،فاذا انت هو وهو فضاء حي غير محدود ،تعلم انك فيه تعيش وبه تدرك المُدرَكات والمُدرِكات معا ،بما فيها مفاهيم الغيب المختلفة لجميع الاديان ..اذ هو السقف لكل تصور وخيال وتفكير .. ان من يعتقد ان الانسان بالمخ يشعر ويدرك مدركاته ،هو سطحي ومخطيء ، فالمخ او الدماغ هو مُدرِك ثالث بعد الاول في الانسان ،ويتوسط  بينه وبين الروح مُدرِك آخر أثيري ، لا يُلمَس ولا يُرى بالمجاهر الالكترونية والعيون الشحمية . فالمخ والاعضاء الداخلية والخارجية ، كنظارات وسماعات و"حيشنيم" أجهزة التقاط  حسية ، الروح يشغلها جميعا من الداخل ويحركها ويمسكها ويدرك بها اشيائها وموضوعاتها ،كأقنعة تلبس بعضها باسم الانا الحقيقي فينا ،هي كاذبة جميعا ..ولذلك فالروح قائم وحده في الوجود عمليا ، وهي بدونه كالآلات والاجهزة الكهربائية بدون التيار الكهربائي الطاقي ،عدم وموات ..  وهو – اي الروح – محجوب بها عن ذاته .. فما الافكار والمشاعر والمعلومات في عالمنا الحسي والعقلي والنفسي ، سوى حجاب وهمي ، يحول بين الروح وذاته ،حيث في هذا الحجاب يدور التاريخ البشري بكل ابداعاته وانجازاته وحضاراته ..
أما الخروج من هذا الحجاب ،من أجل الكشف عن الروح والتحقق به باعتباره الانا الحقيقي المطلق، يقتضي التمرس بالرياضة الروحية اليومية لتفتيح الطاقة الداخلية وترفيعها لتتحول مع الممارسة الى حدس مباشر ولبصيرة روحية كاشفة عن الذات في عتمة الحواس والافكار والعواطف .. عن طريق التأمل والسكون من كل نشاط ذهني وحسي ،حتى يستقر كل شيء ويستكن في مكانه ، كالغبار الذي يتساقط على الارض بعد ملئه للفضاء ، وللوحل الذي يرسب في القعر بعد اختلاطه بالماء ،فيصفو الماء ، واذ ذاك يمكن رؤية شفافيته وتمييز جوهره بصفائه عن الاشياء المستكنة في القعر .. هكذا تتم المعرفة بالذات ، حين يسكن الفكر وتهدأ العاطفة ويتوقف النشاط  الارادي تماما ، فيشرق نور الروح ، ويتبين ان الذي ندركه كعالم موضوعي خارجي ، انما هو صور الروح ذاته وحده ، في جميع الاشياء ، وما ثنائية المُدرِك والمُدرَك ، والذات والموضوع ، والانا والعالم  -  وهي نفسها بمعان مختلفة -  سوى خداع فكري وحسي ناتج عن الاختلاط العفوي والوهمي للروح مع الجسد .. حيث ان العودة للادراك المباشر بحقيقة الروح ،يقتضي السكون من كل نشاط فكري وشعوري وحسي ،حتى يتم الكشف ايضا بصورة عفوية تتخطى الفعل الارادي . بعد ذلك يمكن الانطلاق في العالم مع سر هذا الكشف ،وتتحول الحياة في نظر المستنير ، من هموم ومخاوف وواجبات واطماع وكفاح مضنٍ ، الى ما يشبه النزهة المؤقتة العابرة  في حديقة لهو ولعب .  

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق