ليلة في المشفى بقلم : عبور درويش
2013-02-21 00:22:06

موغلة بالملل ...مؤرقة ..مترعة  بالآلام ..معبقة برائحة المعقمات والسقام...
أجهزة صاخبة... أسرة مزعجة...  وأنات ...تارة تكون عالية بقدر ما أوتي المريض من قوة لإخراجها من جوفه..وتارة خافتة كبتها اليأس وهشاشة القوى ...
وأي قوة بدنية تبقت لدى ذاك المركون على فراش المرض ينتظر من يقلب جنبيه او يحرك أطرافه الخدرة من جراء المكوث المطول بنفس الوضعية الجسدية المتعبة المزرية المهينة... ينتظر موئلا يستر ما تعرى من جسده ...يسمعه كلمة طيبة ...أو يربت على عظامه المنطوية على صدره ...أو بأقل الأحوال يمن عليه بلمسة حنان تسد رمق روحه الجائعة لأواخر المفرحات من الحياة الدنيا ...
بين شهقة وسعلة تدور عجلة ذكرياته أمام ناظريه تعيده نحو ما ولى من فصول عمره بكل تقلباتها ...بكل عصفها وزمهريرها ..ولكنها كانت أقل مذلة ومهانة مما يعانيه على هذا السرير البارد المبلل المكلل بالوحدة والبؤس... 
جالت مسامعي بين زفرات وشهقات ..أنات وآهات أجراس ترن طلبا للعون وأجهزة تصفر معلنة الوصول للمحطة الأخيرة...
ولــــكــــــــن....أصعب ما شدني وتغلغل نحو أروقة روحي كان صوت عجوز تزين خريف عمرها بمرض وعجز وقلة حيلة... اخترقت أناتها حائط الإسمنت الفاصل بين غرفتينا ...سمعتها تطلب العون من ممرض دخل غرفتها على أساس القيام بواجبه المهني المحسوب في سجل الوظائف أنه من أسمى الواجبات الانسانية ...
لم يتسن لي رؤية ما كان يقوم به تحت الأضواء الشاحبة في تلك الليلة المكفهرة ..ولكنني ركزت بصوتها الخافت المدوي ..صوت يحمل أنة رجاء أن يعاملها بلين ورحمة وبعض احترام ...أظنه كان يقلبها ذات اليمين أو ذات اليسار ويبدل ما اتسخ من ملابسها جراء قلة حيلتها ووهن قواها ....استلقت تلك الوحيدة على فراش الآلام تكابد احتمال المذلة والمهانة  بصمت وسكينة لا يعكرهما سوى صوت اجترار آهة مبحوحة ...كانت الشتائم تنهال عليها من فم شاب يافع فتي السن رطيب الغصن يلبس لون الملائكة عاملها باحتقار جعلها بكل جوارحها تناشد عزرائيل بالإسراع نحوها ....
كان شابا في ريعان عمره ..وسيم الطلة وارف العضلات كاد يكون من جيل أحفادها ...لم يأبه لحالها ولم تسعفها أناتها المبحوحة بنيل رأفته أو جني بعض شفقة على حالها أو قلة حيلتها ....أفرغ نفثات إبليسية في تلك الغرفة جعلت تلك المسكينة تتوسد ذراع الهم وتفترش مهاد الغم ,وخرج يتمتم كلاما تنبو عن قبوله الطباع وتتجافى عن سماعه الأسماع,
خرج من الغرفة تاركا بين زواياها بقايا إنسانة أبعد مطالبها أن تحظى بمعاملة انسانية أو حتى شبه انسانية..وتاركا في غرفتي علامات استفهام مؤرقة للفكر مثيرة للاشمئزاز حفرت بين الروح والخافق حزنا وقهرا أطبقا على صدري وزادا من ارتفاع ضغطي ....
تسللت لغرفتها أتفقد حالها ...كانت شاحبة الخدين .. مطبقة الاجفان وكأن أنامل السبات قد داعبت روحها فأدخلتها تحت اكناف سكينة نفسية أنستها مصابها ..
بدت على وجهها بارقة حزن آلمتني  وفضت عقود دمعي  فعدت أدراجي نحو غرفتي وفي جعبتي عبوة من السخط و الاستياء من تصرف ذاك الوسيم اللئيم بحق عجوز عاجزة حتى على تحريك اطرافها لم تكن قادرة...
أعلم أنني لم أذق طعم النوم في تلك الليلة الليلاء إذ كحل الأرق اجفاني ولسع الغضب كياني ...بقيت هائمة بين طيات الحيرة والاستغراب ...هل يعقل أن يكون هذا حال من مرت به السنين وعانقت روحه العلل أن يعامل باحتقار وقسوة ...أن يقع تحت رحمة من لا رحمة في قلبه ... أن يكابد عناءً ومذلة دون رقيب أو رادع
هذه حالة ليست فردية ولا يتيمة ولا غريبة عن واقعنا فبتنا لا نوقر كبيرنا ولا نرحم مريضنا ولا نواسي محتاجا ولا نسامح مخطئا حتى لو أتانا مستغفرا ...
تصلبت مشاعرنا وتراكم الصدأ على شغاف قلوبنا
صرنا كالدمى المتحركة نسير نحو الأمام دون اكتراث لما يدور من حولنا ...
تلك الليلة جعلتني أومئ الى نفسي والى الآخرين بإصبع العتاب ...إن مرضانا وخاصة كبار السن الذين وصلوا الى أرذل العمر  ووصلت مراكب أعمارهم نحو محطات لا رجعة منها..هم  بأمس الحاجة لمن يدثرهم بالطمأنينة والأمان  علينا ألا نتركهم في المستشفيات ودور العجزة دون رقابة واهتمام فإننا بمضي السنين ستكون حالنا كما حالهم !!!

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق