رأس النبع بقلم كميل شحادة
2012-11-04 15:21:32

اذا اردت ان تمرأ وتهنأ بشرابك اذهب لرأس النبع .. لا ترضى ولا تقنع بالشرب من المجرى البعيد ، فضلا عن المستنقعات .. اذا اردت ان تروي عطشك المعرفي والوجودي عليك ان تهجر كل انواع واصناف السواقي ، فقد اختلطت مياهها بشتى انواع والوان السراب والوحل والجراثيم .. ولقد قامت  الصناعة والبلورة والفبركة والتشويه في ذلك ، وحُبست مياه الحقيقة بعد ذلك في انابيب وخُزِّنت في خزانات وتعابٍ شتى وقد دخلها التضاد والفساد ..
نعم عليك ان تذهب مع المجرى في سراديب وعبر ظلمات نفسك ،تتسلق صخورها ووعورها ، تنزل وديانها تصعد قممها تخترق اسوارها نحو اعماق اعماقها  حتى تصل المنبع لتدفق نسمات الحياة والادراك ، هناك في اغوار اللاوعي التجاوزي .. ان المعارف جميعا بكل اصنافها واشكالها والوانها لا تزال تأخذك بعيدا عن حقيقتك .. لا تنفك تمزق في كيانك ، تغربك عن نفسك ، تُطِح بك بعيدا عما يجب ان تكون..
وكل ذلك باسم الحقيقة وبشرعها وبقصد التحقق بسعادتها ، لكن بصور ومعان واشكال هي دونها بكثير وقليل   .. الماء الحقيقي هو ماء الحقيقة ذاتها الذي اذا ذقته يروي فيك حقيقة .. بينما الامياه الاخرى ( المعارف والاغراض ) توهمك بالري في حين هي تزيد في عطشك وفي محلك وقفرك وجهلك وحيرتك ، لأنها لا تصل فيك الى قلب القلب ووعي الوعي ، ولا تظفر منك بمنبع الظمأ وبمقلع الشوق للنجاة والخوف من الهلاك .. بل هي تزور خيالك زيارة عجلا  وتداعب شوقك من وراء حجاب ، لا تلبث معها طالبا لأشكال وألوان منها في مصادر اخرى ومن اماكن اخرى وفي صحارٍ اخرى .. وان تظن انك حصلت على مرادك منها .. انت تقبض على ذلك العصفور الغريب في المنام .. انت تمسك بالغزال الهارب في حلم اليقظة.
انت تستغرق في ظل تلك الجوهرة الملكية الابدية ،الجوهرة التي يبحث عنها الجميع ، يطلبها الفقير والغني ، والعالِم والجاهل . فهي الغنى الذي يقف وراء كل غنى ،والهدوء الذي يمنح الطمأنينة لكل قلِق ،والجمال الذي يظهر في كل جميل .. أجل انت تستغرق في ظل تلك الجوهرة دون ان تراها ، وهي قابعة خلف افكارك وشهواتك واطماعك وطموحاتك ومخاوفك .. وحتى وانت تحقق في البحث عنها - في نطاق الثنائية - مُدرِك ومُدرَك ، ذات وموضوع .. هي تفلت منك بزئبقية غريبة وتتخفى عن ناظريك باقنعة من الرغبة في الكشف عنها ، وهي حاضرة في الشوق وفي السؤال ، حضور الماء في الدماء الذي يستسقي الماء ، وحضور الطعام في اللحم الذي يجوع ويشتهي الطعام .. وبسبب استتارها وخفائها في عز ظهورها ووجودها ، تبلبل الباحث عنها حتى تكون " كاللص الذي يبحث عن اللص المتنكر في ثياب شرطي " ..آمن بها من آمن ، وكفر من كفر .. في حين منها وعنها وفي سبيلها وتحت هيمنتها، صدرت وتصدر كل المطالب والاغراض .. كل المذاهب والمعتقدات ..
ومنها وفيها ومن اجلها نشأت وقامت جميع الصراعات والحروب والحضارات .. وما المعتقدات فيها سوى آمال ومخاوف للقائها .. وما الفنون والآداب والفلسفات سوى أدوية ومسكنات لأوجاع الفراق والاغتراب عنها .. كل يطلبها بسبيل .. لكنها هناك  هناك حيث لا حيث وعند لا عند .. وهي أقرب اليك من حبل الوريد" وأبعد من كل بعيد

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق