قصة قصيرة: "عمي" أبو حلمي وتنابل السلطان عبد الحميد.
2008-01-31 20:55:33

بُعيد انتهائي من عملي كل صباح يوم جمعة, يشدني الحنين إلى ذلك الشخص الذي أعرفُه جيدا وأجهلُه تماما. فتراني قد انزلقت خطاي وسارت بي قدماي دون سابق انذار إلى شارع صلاح الدين، وأنا اجتازه في خطوات متمهلة استبطاؤها عمدا, يصول ويجول نظري يمينا ويسارا, فيقع بصري على الجالسين أمام حوانيتهم والمارين, الذين أعرفُهم ومن أجهلُهم, أُلقي التحية عليهم, يردونها بأحسن منها كما ورثوها عن أجداد أجدادهم.
أواصل سيري البطيء, حتى أصل إلى ما قبل اخر الشارع ، التفت يمينا ويسارا, كي أتأكد من عدم وجود مركبة ربما تباغتني, فأُعرّج على جهة اليمين,       لأصل إلى شارع فرعي يُدعى شارع( المسعودي).
وكما في باقي شوارع القدس ,تصطفُ الحوانيت على ضفتيه مزركشة بالبضائع والاعلانات ونداءات البائعين,وبعد عشرات الأمتار تقريبا اشتم رائحة القهوة تفوح في خياشيمي , رويدا رويدا يزداد عبقُ القهوة في انفي، أصلُ إلى دكان صغير لا تعدو مساحتُه عدة أمتار تتصدّرُه فاترينا زجاجية متواضعة، اصطفّت داخلها علبُ المشروبات الخفيفة وزجاجات الماء, وقد امتدّت على طول جدران الدكان الثلاثة طاولة خشبية  قديمة,و في الوسط يتموضعُ على كرسيّه القديم ((عمي أبو حلمي)) متكأ على ثلاجة عجوز.
( صباح الخير عمي أبو حلمي)
مع ابتسامة لا تفارق محياه, يقف منتصبا على رجليه ويلوّح بيمينه مكرّرا التحية بأحسن منها.
( تفضل, تفضل يا استاذ), ادخلُ الدكان دون استئذان ,أبو حلمي يدنو من ميلاده الثمانين, وقد أخضع الدهر قامته فبدا منحنيا كمن يعاني شللا نصفيا ,يدفع رأسة
امامه حتى يسرّع خطاه ,ليقدّم أكواب الشاي والقهوة لجيرانه من أصحاب الحوانيت, وهو يحمل بيمناه طبقا نحاسيا عاصر جميع حروب العرب مع اسرائيل. تصطفّ فوقه أكواب القهوة
والشاي معززة بأخرى مليئة
بالماء.
يلتفتُ يمينا ويسارا, يقطع الشارع إلى ضفته الأخرى ليوزّع تحياته الصباحية الباسمة وأكواب القهوة. تراه نشيطا في مشيته,مما يجعل الكؤوس تتراقص فوق صينيته النحاسية.
وكعادتي, أسحبُ كرسيّا له ثلاثة أخوة فقط. أجلس عليه بحذر بعدما أفترشُه بجريدة أُعدّت لهذا الغرض, كي لا يمازحني  جانبه المكسور ويغرس أنيابه بأطراف ملابسي.
دقيقة دقيقتان مرّت.
ها هو أبو حلمي يعود محمّلا بصينيته وأكواب فارغة .
( أهلا, أهلا يا أستاذ يا صباح الخيرات. مستقبلا اياي بلهفة واضحة).
( أهلا عمي أبو حلمي، كيف حالك؟
(هيه، الحمدللة, الحمدللة, يا استاذ. انت بتحب القهوة بدون سكر يا استاذ ثوان وبتجهز). وانصرف أبو حلمي الى الجانب الأيمن من هذا الدكان الذي ورثه عن أبيه حينما استخدمه لبيع الحمص والفول خلال عقود خلت. يدخل المطبخ الذي لا يحوي سوى أكواب لا تتشابه الا فيما ندر. وغاز قديم وبعض العلب الممتلئة بالُبن والسكر وعدد قليل من المعالق.
اجلس على كرسّي خلف ستار القماش الذي يفصل ((المطبخ)) عن ((اللّوبي)).
امامي مباشرة وعلى بعد متر ونصف تنتصب ثلاجة عملاقة عجوز. . وأنا غارق بأفكاري التي لا تفارقني منذ ركلني الله إلى هذا الزمن.وقع نظري على قطعة من الكرتون لم تحافظ على نظافتها بحكم الزمان والمكان, وبدون تكلّف قرأتُ ما ورد على بطنها :(( فكيف تخافُ الفقر والله رازق فقد رزق الطير والحوت في البحر)) (للامام الشافعي).
وفجأة, وعلى حين غرّة, وبدون سابق انذار, اقتحم الدكان رجل ضخم, عريض المنكبين ,عالي الهامة, يحمل أمامه كرشا لا تُحمد رؤيتُة, ويجرّ خلفية حرص على تربيتها جيدا.
بصوت متجهم, هجومي, منفرّ, خشن, صبّح علينا, رددتُ التحية لكن ليس بأحسن منها. رمقتُه بنظرة اشمئزاز ,لان ايماءات عينيه وملامح محياه الواسع لم تبعث الراحة في نفسي.
"تكرّموا علينا بما كرُم الله عليكم يا اخوان" قالها,كمن يحثّنا على تسديد دين قديم,
وقد ملّ وكلّ من شدة ما طالب باسترداده. فسارعت وبأدب لا يخلو من الغضب الواضح لم أنجح في اخفائه :"الله يعطيك يا عم تسهّل".
أبو حلمي جنّب نفسه الاحراج, فلم يبرح زاوية المطبخ حتى عالجتُ أمر السائل.
انصرف وهو يتمتم بألفاظ فهمتها وأخرى لم تصلني ذبذباتها.
:( ايه الله يعين يا استاذ، الله يعين). قالها أبو حلمي متنهّدا زافرا, وهو يضع قهوتي على الطاولة بجانبي.
:( شو قصتو هالرجل عمي أبو حلمي:
هذا يا أستاذ كل يوم جمعة بيجيني متل القدر المستعجل لا شغلة ولا عملة وصحتو متل البومب,  بدو يعيش على حساب العالم، الله يعين ويصلح العباد).
رشفة، رشفتان، ثلاث من فنجان قهوتي حملتني بعيدا بعيدا إلى غابر الأزمان وتذكرت قصة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني, حينما اراد معاقبة التنابل من المواطنين. (والتنبل هو الشخص الكسول, اقل الناس عملا واكثرُهم جدلا, وبسبب كثرة مرحهم تغاضى العرب عن قلة نفعهم,فتنبّة السلطان عبد الحميد
لخطرهم على النسل البشري, فعزم على ابادتهم ,فامر بحرقهم كي يرتاح منهم , ويريحوا.).
تنبّه لي أبو حلمي فباغتني مستجوبا اياي.
وين سرحت يا استاذ، يا استاذ ليش صافن:.
نعم عمي أبو حلمي:
وين رحت؟ وين وصلت؟
اسطنبول عمي أبو حلمي, اسطنبول.  فما احوجنا في هذا الزمان الى شخص مثل السلطان عبد الحميد: قاطعني ابو حلمي ودون ان يفكّر فيما نطقتُ . قائلا: اية واللة .
 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق