الحداثة في الشعر العربي المعاصر بقلم الكاتبة امال ابو فارس
2012-10-02 21:41:14

في مقال سابق عنوانه "الهوبلة" طرحت موضوع تأثير الحضارات على بعضها البعض. وما الحداثة إلا باب من أبواب الانفتاح الحضاري التي تعني מודרניזציה (( modernism. والحداثة لا تقتصر على الشعر فحسب بل تتعدى ذلك إلى التحرر من كل قديم من الناحية الفكرية والمادية والاجتماعية. في مقالي هذا سأتطرق إلى باب الحداثة في الشعر العربي القديم والمعاصر.
يعتبر البعض ظاهرة الحداثة في الشعر أنها تعود إلى بداية القرن العشرين، لكننا لو تتبعنا مراحل تطور الشعر العربي نجد أن الحداثة ظاهرة ليست بجديدة بل تعود إلى عصور قديمة، فالشعر الجاهلي أو شعر البادية أقدم أنواع الشعر. لقد تغنى فيه شاعر البادية بكل ما كان موجودا في بيئته ومناخه المستوحى من الزمان والمكان اللذين عاشهما الشاعر آنذاك، كالشجاعة والمروءة وقرى الضيف والبكاء على الأطلال وغيرها. كان الشعراء يميلون إلى الجزالة والوعورة والغريب من حيث اللفظ، لتتجلى كلها في قصائدهم وتعابيرهم. وقد تميزت تلك الحقبة بمعجم لفظي خاص بها.
 بمرور الزمن ومع قدوم الإسلام والفتوحات الإسلامية وفي عهد الدولة العباسية استجد الفكر والثقافة من جراء الانفتاح الحضاري على مجتمعات أخرى، فترجمت الكتب عن الهندية والفارسية واليونانية، ودخلت تيارات جديدة فكرية دينية وفلسفية مما أثّر في الشعر وأحدث تغييرا وغموضًا نتيجة للتجديد الذي طرأ على القصيدة في حينه بعد أن اعتادوا كتابة القصيدة الواضحة قبل ذلك.
 ثم تحولت الحياة من حياة البدو إلى الحضر، فدخلت على الشعر مضامين جديدة تنم عن واقع جديد وحياة أخرى مستوحاة من حياة المدينة والقصور والأمراء، فتغنى الشعراء في الخمر والقيان، والأباريق والكؤوس ، ووصفوا المرأة بشكل حسّي فاضح، كما انشغلوا في مدح الأمراء وذم خصومهم، ووصف قصورهم ومبانيهم. لم يتركوا شيئاً في محيطهم إلا وتناولوه في قصائدهم بوصف جمالي ينمّ عن ذوق حضاري متفتح، كما نفروا من وصف حياة البادية ووحوشها وحيواناتها ووعورة ألفاظها،  واتبعوا سهولة اللفظ ورقته ليكون طريقهم في الإبداع.  إن حركة الزمن هي التي تعطي للحداثة استمراريتها، وطبيعة التقلّبات التي مرّت على المجتمع العربي بعد الإسلام غيرت في مجمل الذوق العام، من البداوة إلى تلمّس الحضارة والانصهار بها، وانعكس ذلك على اللغة والأدب، وأصبح الشعر يميل إلى الصفاء والسهولة والعذوبة، لكن الميزة التي ظلت ثابتة هي التقيد بالقافية والوزن بحسب بحور الشعر.
 ينسب البعض الحداثة إلى القرن الثامن ميلادي، إي في بداية الدولة العباسية حيث بدأت بوادر اتجاه شعري جديد تمثل في بشار بن برد وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء المعري الذي جاء بفلسفة جديدة ألا وهي الزهد وترك الدنيا بكل ملذاتها وترك المعاصي، وقد اتهم بالكفر والزندقة. من أشهر مؤلفاته اللزوميات أو لزوم ما لا يلزم وفيها تبرز ظاهرة لغوية هي التقيد بشكليات لفظية في القصيدة لا يضطر الشاعر إلى التقيد بها.
في بداية القرن الماضي نشأت حركة فكرية جديدة مستوحاة من الأدب الغربي حيث رأت أن الشاعر العربي الذي يتقيد "بلزوميات" فرضت علية منذ زمن بعيد في قرض الشعر كالوزن والقافية والبحر الشعري لا تخدم الفكرة التي يريد الشاعر طرحها، فتأتي الفكرة ضعيفة لان جهد الكاتب ينصب في إيراد القصيدة كاملة لا عيب فيها من الناحية الشكلية، بعكس الشعراء الغربيين الذين يهتمون بالفكرة والمضمون أكثر من اهتمامهم بشكل القصيدة. فنشأ نتيجة لذلك في العراق تيار جديد الذي جاء بشعر التفعيلة، في سنوات الأربعين من القرن الماضي. ومنهم  نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وغيرهم من الشعراء. سمي بشعر التفعيلة لان القصيدة حافظت على الموسيقى لكنها لم تتقيد بعدد التفعيلات. مع ذلك اعتبر هذا النهج خروجا عن المألوف ألا وهو قولبة القصيدة العربية التي دامت مئات السنين، وأعطيت للشاعر الحرية الفكرية في صياغة أحاسيسه ومشاعره في نص يلائم الفكرة والمضمون ويأتي بمقاسها لا قصرا ولا جبرا.  لقد أبدع الشعراء في هذا المجال فجاء شعرهم لطيفا حساسا يمس القلوب. لم يكن معدا لفئة من المجتمع دون الأخرى. فعلى سبيل المثال في قصيدة "الباب تقرعه الرياح" لبدر شاكر السياب، عندما طرد من بلاده إلى المنفى في لندن، هزت الرياح ذات ليلة باب غرفته فتخيل له أن روح أمه تدق الباب فقال لها ببساطة وشفافية تخلو من التعقيد والفلسفة والافتعال:

البَابُ مَا قَرَعَتْهُ غَيْرُ الرِّيحِ في اللَّيْلِ العَمِيقْ
البَابُ مَا قَرَعَتْهُ كَفُّكِ .
أَيْنَ كَفُّكِ وَالطَّرِيقْ
نَاءٍ ؟ بِحَارٌ  بَيْنَنَا ، مُدُنٌ ، صَحَارَى مِنْ ظَلاَمْ
الرِّيحُ تَحْمِلُ لِي صَدَى القُبْلاَتِ مِنْهَا كَالْحَرِيقْ
مِنْ نَخْلَةٍ يَعْدُو إِلَى أُخْرَى وَيَزْهُو في الغَمَامْ
البَابُ مَا قَرَعَتْهُ غَيْرُ الرِّيحْ ...
آهِ لَعَلَّ رُوحَاً في الرِّيَاحْ
هَامَتْ تَمُرُّ عَلَى المرافئ أَوْ مَحَطَّاتِ القِطَارْ
لِتُسَائِلَ الغُرَبَاءَ عَنِّي ، عَن غَرِيبٍ أَمْسِ رَاحْ
يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْنِ ، وَهْوَ اليَوْمَ يَزْحَفُ في انْكِسَارْ .
هِيَ رُوحُ أُمِّي هَزَّهَا الحُبُّ العَمِيقْ ،
حُبُّ الأُمُومَةِ فَهْيَ تَبْكِي :
" آهِ يَا وَلَدِي البَعِيدَ عَنِ الدِّيَارْ !
وَيْلاَهُ ! كَيْفَ تَعُودُ وَحْدَكَ لاَ دَلِيلَ وَلاَ رَفِيقْ "
أُمَّاهُ ... لَيْتَكِ لَمْ تَغِيبِي خَلْفَ سُورٍ مِنْ حِجَارْ
لاَ بَابَ فِيهِ لِكَي أَدُقَّ وَلاَ نَوَافِذَ في الجِدَارْ !... ألخ
 لندن  13- 3 -1963
لقد جاءت هذه القصيدة مؤثرة لأنها بسيطة التعبير وقوية المعنى. تمس مشاعر المتلقي وإدراكه وإحساسه بفكرتها ومضمونها وجزالة ألفاظها وسلاسة التعبير فيها. فهي تمر في النفس كالماء الصافية العذبة ليتم هضمها بسهولة ومرونة. هي لم تكتب لفئة من الناس دون سواها، فيستطيع المثقف وغير المثقف فهمها.  
بما أن الحداثة ظاهرة متحركة غير مستقرة فان القصيدة استمرت في تطورها لتصل إلى القصيدة الرمزية والتي تميز بها شعراء ما بعد سنوات الستين من القرن الماضي. يضطر القارئ في بعضها إلى قراءة القصيدة أكثر من مرة ليقف على ما يرمي إليه الشاعر من وراء الرموز التي أدخلها في القصيدة، فمعظم رموز القصيدة تأتي مبهمة يسودها الغموض، يكاد ينحصر فهمها على الكاتب وحده، أو كل منا يفهمها حسب ذوقه وفكره، تماما كلوحة فنان يحللها الناظر إليها من وجهة نظره هو، ثم يأتي شخص آخر ليحللها من جديد بصورة مختلفة تماما. ويمكن تعذر ذلك احيانا.
يقول البعض أنه يجب أن تكون مثقفا لتحل رموز القصيدة، وكأنها أحجية أو شيء من عالم الغيب. كما يقول آخرون ان القصيدة الحديثة تكتب لفئة معينة من الناس دون سواهم. وانا أسأل بدوري: هل يتوجب على المتلقي في هذا العصر الالتحاق بدورة عنوانها "فك الرموز" من اجل فهم القصيدة الحديثة؟ وهل يكتب الادب لفئة معينة من الناس؟ أظن كما يظن غيري من الناس، ان الادب الجميل هو الذي يمس قلب القارئ ومشاعره وإحساسه، بغض النظر عن كونه مثقفا أو غير مثقف، ولا أظن أنه يوجد جدال حول ذلك.
فالميل الى ايراد الكلام المبهم في القصائد، الذي لا يستطيع المتلقي ترجمته الى أفكار واضحة جلية، يؤدي أحيانا إلى نفور القارئ من هذا اللون من الشعر. فعلماء النفس يؤكدون أن كل فعل عاطفي يكون في الدماغ أولا، ثم ينساب عبر الاحساس والشعور ليتم الانفعال منه. فإذا لم يتوفر الحافز الذي يحرك الدماغ ألا وهو الفكرة، ليحاكي بها مشاعر المتلقي وإدراكه وإحساسه، فإن كلام الشاعر لا يفعل فعله في المتلقي فتكون ردة الفعل النفور والابتعاد.
لقد فتحت كتابا حديثا لأحدى الاديبات المحليات. بدأت بقراءته، ثم حاولت ان افهم سطورَه وما بين سطورِة، فتعذر علي ذلك نظرا لما يحتويه من الفاظ شعرية غريبة ومبهمة. لم أفهم منه شيئا، ولم أعرف أي رسالة أرادت هذه الكاتبة ان توصل لجمهور قرائها. فقد ساد الكتابَ الغموضُ لدرجة أنني لم استطع هضم تعابيره وألفاظه. بالرغم من إصراري على قراءته عنوة، لم أرغب في المتابعة فتركته جانبا لاني لم استطع أن اجبر نفسي على شيء لا أرغب فيه.
 في رأيي أن كل قصيدة إن لم تمس القلب والإحساس فهي ليست بقصيدة. القصيدة تفعل فعلها في النفس تماما كما تفعل الموسيقى، فالنغمات التي نأنس بها وننعم بسماعها، هي الألحان التي تمس القلب والمشاعر. فقد غنت أم كلثوم لكل فئات المجتمع دون تفرقة. وأحببناها لأنها جمعت بين جمال اللحن وقوة الكلمة وبراعة الصوت. وعندما تجتمع الكلمة والفكرة والمضمون يبدَع الشعر الأصيل، بشرط أن يبتعد عن التكلف والإبهام والغموض. ولا يهم إن نظم بشكل عامودي أو على الطريقة الحديثة.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق