تمتمت الريح ( هل أتبرأ من القدر)! بقلم دينا سليم
2012-09-29 22:33:20

ترك لأذنيّ وقع الريح وخرج، زلزل كياني فسقط من أذني القرط، سقطت ساعة الحائط  فوقع صداها في زند عقلي، صرختُ:- ويحك يا بني، لا تغادر... لكنه تركني وغادر... لم يقل لي ( كل عيد وأنت بخير يا أماه)!
عشت حلما متواضعا طوال حياتي لم يتحقق، سخّرت دعواتي للقدر والآلهة، طلبت أن يشفى وليدي من الكرب الذي أصابه، الظاهر أن إيماني ضعيف... لا يزال يعاني حتى الآن!
أذكر أني في يوم ما زينت شجرة عيد الميلاد وحدي، غيبتها من صدر البيت ونصبتها داخل غرفته، تكتمت على هذا السرّ العظيم ولم أعلن عن وجودها في بيتي لئلا تتخذ جدته مني موقفا سلبيا فأنعت بصفات لا تليق في مقامي، كان ذلك عندما توفي أحد الشبان المقربين لها، رفضت (أن أقطع العادة)، كما يدّعون، فشجرة الميلاد دلالة على استمرارية الحياة، وخوفا من العواقب زينتها وأنا أرتجف متمنية ألا يفتضح أمري، وأمنع من إنهاء مهمتي فأفقد ابني المريض في يوم ما، لقد آمنت بحكم القدر فلا تلوموني!
الريح تزمجر، لم يهدأ المطر في الخارج، ساعة موبايلي تؤشر على الثالثة صباحا، قلبي ينقبض، أتحدث إلى نفسي، لم يتعاطف أحد مع دموعي... ولم يعد!
أذكر تماما عندما عاد العيد مجددا، كنت قد جهزت الكعك المحشو بالتمر دوائر، أعلنت نتائج التحاليل، رائحة الموستكا تنتشر في البيت، طفلي يتألم، النتائج سلبية، تحولت الدوائر إلى عيون حادة لشياطين تطبع لعنتها في بيتي، وبقى الكعك على حاله لم يلتهمه أحد!
هل أتبرأ من القدر؟
والدة تحتضن طفلها، عثروا عليهما معا بين الأنقاض في اليابان، الخراب يعم المكان، احتفظت السماء الملوثة بالإشعاعات الخطرة بشيء أعظم من الحياة، الأمومة، ألم أقل لكم سابقا أن الأمومة أكبر لعنة!
ومن بين زحام عقلي تذكرت شيئا هاما، محل الزهور في البلد مزدحم جدا، فاليوم هو يوم الأم والجميع يريد أن يحتفل به، الزهور تعانق أيدي حامليها، عينا (أصايل) دامعتان، فتاة في عمر الخريف فاتها قطار الحب فبقيت وحيدة تنتظر.
الزهرة الحمراء في ركن الغرفة تعانق نظراتي المحتارة، لو أذنت لها لتكلمت، كيف للذاكرة أن تضمحل وتنسى ( عادلة) المرأة العاقر التي غابت عنها شمس السنين قاسية، جارة (أصايل)، شيء ما وطد صداقتهما، زنبقتان جميلتان، ساكنتان هادئتان، جف من جسديهما زهو الشباب ولم تتحقق أحلامهما!
أوصيت طفلي في يوم عيدي:
-  تجنّب المرور أمام بيت (أصايل) فهي لا تحب الأزهار، ثم أخشى أن تراك ( عادلة ) فتأخذ منك الباقة لنفسها وتنسى أنها تعاني من حساسية الربيع، علمته كيف يسلك طريقا آخر أثناء عودته إلى البيت!
طالت رحلة المرض، عيد آخر يأتي وآخر يذهب، تمر الأعياد عشرة والكعك المبسوس بالزبدة ينتظر من يقلبه، وحيدي يكبر مع السنوات ويكبر قلق قلبي معه.
ساعة جهازي تؤشر إلى الخامسة صباحا، السماء المثقلة بالهموم تهمس في أذن شجرة السرو المطلة على نافذتي، الريح تتمتم كالعادة، سطح بيت جارتي يصغي السمع، قطتها السوداء تظهر فجأة على سور الحديقة الذي يفصل بيننا، عيناها متعبتان وأنفها الأفطس لن يعيد الحياة إلى ربيع نفسي، هذا اليوم الماطر يغيّب عن أذنيّ زقزقة الطيور وهمس الفراشات الذي يفرح قلبي المتعب، لا أسمع صدى خطواته... لم يأتِ بعد!
ضجرت من الإنتظار، صداع ما يتمكن مني، كبرت الزهرة الحمراء لتصبح شجرة سامقة فيما بعد، أراها متفتحة الآن أو ربما هي وساوس عقلي، تشب داخلي ذكرى أليمة، فالذكريات أصبحت متشابهة، الأسرة البيضاء تغمر عقلي، أكياس معلقة ودريلات، وجبات دماء، أطباء وممرضات، رائحة تنفث في المكان تذكي حاسة الشمّ عندي، لم تكن رائحة زهرة البيلسان، ولا بخّور دور العبادة التي زرتها، ولا رائحة عطب السنين، هل توجد رائحة لجسد المريض؟ أشم رائحة شيء كريه، كوب الحليب مركون منذ الصباح إن لم أشربه أنا فلن يشربه أحد غيري!
كلمة واحدة تنسيني ألم الأيام، لماذا لم يقلها قبل أن يغادر ويريح قلبي، لم أنسَ موقف تكرر معي مرات عديدة، عندما نثرت الملح أمام فتحة بيتي بعد مغادرة بعض الضيوف الذي وضعوني في حسابات عقولهم الحسودة، لا البيوت ولا الجاه ولا المال يمكنه أن يعيد صحة وليدي لي، فلماذا لا أنثر هذا الرذاذ المالح بعد مغادرتهم بيتي، رغم كل هذا، فقد خاب ظني!
جارتي تذهب إلى عملها، إذن أصبحت الساعة الثامنة صباحا، صوت القطار من بعيد يبعث الدفء في عروقي التي بدأت تجف قلقا، استفاقت الحارة، ضحكة طفل تطرق باب اليوم، هدأت السماء فبدت صافية... لم يعد!      
سألتها، فلنا لغتنا الخاصة بنا، بلكنة انجليزية لكي تفهم تساؤلاتي، لقد انحلت عقدة لساني أخيرا، لغتها واضحة، سمعتها جيدا عندما تمتمت الريح في أذني قائلة:
- هل نسيت أنهم هنا في أستراليا يحتفلون بعيد الأم في شهر مايو، أيار...

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق