هل هي عبرة سنين؟بقلم: دينا سليم
2012-09-18 00:02:03

أن نزرع الشوك في الحقل معناه أن حياتنا قد أقفرت ويبست، وإن حرثنا في الصخر فمعنى ذلك أننا نضع جهدا في غير مكانه.
ولأن ذاكرتي مثل قماش السيتان من أيام الغياب أعود لأتذكر حادثة ما، سأقفز معكم هنيهات لنحط على جناح حكاية رشيقة حصلت معي في مرحلة الطفولة المبكرة، حيث مررت على فلاحة مسنة انهمكت بزرع الأشواك في حقلها، سألتها لماذا؟ التفتت نحوي ومن بين زحام العرق المتصبب على وجهها فيصل شفتيها، قالت: اقتربي لكي تري ما أنتجته الأرض الخصبة التي اعتنيت بها طوال حياتي، وعندما نظرت إلى الأرض لم أر أشواكا بل رأيت بعض الأعشاب الخضراء التي نبتت بين نبات الفول الأخضر، قالت لي: تعبت من قلع هذا النبات المتطفل الذي سيغدو أشواكا تخنق الزرع فيما بعد، عملت وحدي وتعبت وحزنت جدا عندما تجاهلني الآخرون، وعندما كبرت بي السنين، وعندما استنفذ العمر سنواته وقعت على خطأ الحقيقة ...
- عن أي حقيقة تتحدثين يا خالة؟
ضحكت فظهر سنها المطلي ذهبا، وقالت:
- أنتِ لا تزالين طفلة، فلن تفهمي ما أريد قوله إلا عندما تكبرين.
كبرت معي السنوات أيضا، وبدأت أفكر بهذه العجوز، وتذكرتها مجددا، لكن هذه المرة، عندما كانت ترعى ثورا صغيرا في الهضبة الخضراء التي كنت أهرب إليها عادة مع كتاب ودفتر التدوين خاصتي، أذكر أني سألتها:
- هذا هو الذي تملكينة يا جدة؟
- كفاية جدا، فهذا الثور سيكون مصدر سروري في الحياة، ثور واحد يكفي لأن أكون غنية ومرتاحة، الجميع سوف يطرقون باب بيتي المتواضع يطلبونه مني، وفي المقابل أقوم بتنشئة وحيدي وتعليمه في المدرسة، فأنا لا أملك سواهما.
أجابتني، وعقل الطفلة لم تفهم شيئا، حتى كبر هذا العقل ونما، درس وكتب، سافر وتمرغ بتراب المشاوير المتعددة... وغاب بعيدا.
أتسأءل يوميا لماذا أذكر هذه الفلاحة الآن، وما الجديد الذي طرأ على حياتي لكي أتذكر هذه المرأة التي كانت تجلس بجانبي تحاول سرقة بعض حروفي التي كنت أدونها، فيما تدع الثور يرعى آمنا، تسحب خيوطا من قطعة قماش قديمة لكي ترتق بها قميص ابنها، يا لهذه الذاكرة اللئيمة، بت أتذكر أشياء كثيرة كانت محصورة في غياهب الحياة خاصتي، تلك الفلاحة، قامت بكل هذه الأشياء لكي تحافظ على ثورها، وابنها ونفسها من غياهب العمر الشاق، وتذكرت أيضا أنها كانت جميلة المُحيّا، رشيقة القوام، قوية وشجاعة.
أتذكر أيضا أنني اتفقت معها على أن نلتقي كل يوم أحد، يوم إجازتي من الدراسة، لأننا أصبحنا صديقات، تلك المرأة دفعتني إلى النبش في عقول الآخرين، خاصة عندما حصل وأهدتني في يوم ما سنها الذهب، فتحتُ كفّي الصغيرة كما طلبت فوضعته داخلا، رميته أرضا بين العشب مذعورة وأنا أرتجف مصعوقة، صرخت وتلعثمت:
- ما هذا، لماذا... ؟
- أردت أن أمنحك آخر ما تبقى مني، لأني أخشى من اللصوص أن حصل ونبشوا قبري من بعدي يبحثون عن سنّ الذهب، بعد أن غاردني ابني وحيدي الذى دللته وكبرته برموشي حيث لا أدري، وبعد أن سُرق الثور مني، لم يتبقَ لي إلا هذه الوديعة، أردت أن أضعها بين يديك لكي تتذكريني، لأني أدرك تماما أنكِ أيضا سوف ترحلين عن الديار عاجلا أم آجلا!

 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق