الحقيقي بين المُدرِك والمُدرَك بقلم كميل شحادة
2012-09-07 14:18:50

ما هو الحقيقي في حياتنا .. ؟
كيف نتبين الحقيقي من غير الحقيقي ..؟
ما المعيار ، المقياس ، القاعدة التي نعود اليها لمعرفة الحقيقي ..؟
هل الحقيقي حقائق كثيرة متنوعة ونسبية العلاقة والاعتبار ، ام واحد مطلق..؟
لماذا يجب ان نعرف الحقيقي في حياتنا ..؟
هناك طريقين للاجابة عن هذه الاسئلة ، الاول يتمثل في وضع صورة متكاملة شاملة عن الحقيقي، ثم البدء بالبرهنة عليها . الثاني يتمثل في تكوين مسار ،أو الكشف عن مسار نبرهن من خلاله عن الحقيقي لنصل الى يقين تجاهه ..اي من الكلي الى الجزئي ،أو العكس من الجزئي الى الكلي .. وسواء اتخذ الطرح صفة المقولات العقلية الكلية المجردة ،أو اتخذ الصفة الاستقرائية التجريبية الجزئية ، فان النتيجة واحدة ولا يهم اي الطريقين نتخذ هنا، بمقتضى الحقيقة غير المادية في ذاتها ،لكن من الاسهل وضع تعريف اولي متكامل لما نقصد بالحقيقي ..
عليه الحقيقي هو : ما يحمل في ذاته صفات البقاء والثبات والدوام ،وما لا ينقسم الى ضدين متعارضين او لاكثر بحيث يلحقه التغير في ماهيته ، فضلا عن التفكك والانحلال والزوال .. ولكي نخرج من لغة الرمز والتجريد وندخل في التعيين والملموس في سبيل العودة للمجرد مع ايضاحات ممثولة نقول : هل يمكن ان نعتبر الصخور مثلا اكثر حقيقية من اجسادنا وافكارنا ومشاعرنا ، ما دمنا اعتبرنا الحقيقي هو الذي يحمل صفات البقاء والثبات اكثر من غيره ؟ قد يكون السؤال التالي جوابا خُلاصيًا عن هذا السؤال .. بأي نوع من الادراك نحن عمليا ندرك الصخور ..؟ اليس من المنطقي ان يكون الحامل المدرِك اوسع اثبت وابقى من المحمول المدرَك..؟ لكي نحدد طبيعة الادراك للثابت علينا التمييز بين انواع الادراك المختلفة فينا ، حتى نصل الى المدرِك فينا لكل ما يحمل صفة البقاء والثبات ، وبالتالي نصل الى الحقيقي .. اذا كانت الصخور ابقى واثبت من الفكر الذي بطبيعته متغير متبدل على الدوام ، وابقى من العين الحسية التي بها نرى الصخور ، وابقى من الجسد الذي نرمز الى فنائه وزواله عند الموت بلوح صخري فوق حفرة القبر .. فبأي شيء اذن ندرك الصخور ، ندرك صفات الثبات والدوام فيها ..؟ هذا ما يجب تكريس البحث فيه واستكشافه ، حيث لا يجدي التعريف والوصف والتحديد بلغة الفكر ،من حيث ان الفكر محمول فيما هو اوسع ابقى واثبت فينا .. واذن لا بد في سبيل ادراك المدرِك فينا لصفات البقاء والثبات والدوام ان نتخطى الفكر ،ان نحاول فهمه  بما يتمثل في نشاط  باطني تأملي استبصاري وليس بمجرد التفكير .. لكن لنلق الضوء على مسألة الحقيقي من زاوية اخرى . لماذا بالاحرى يجب ان يكون الحقيقي هو ما يحمل صفات البقاء والثبات والدوام في صورة وعي مطلق ؟ فالفنان عموما يرى الجميل هو الحقيقي ، وكلما كان الشيء الجميل اكثر سحرا وإبهارا وإطرابا ، كان اكثر حقيقية ، بغض النظر عن الحامل للجمال ،الذي هو في كل الاحوال اكثر ثباتا واتساعا ودواما من المحمول ، فالصخرة التي ينحت فيها الفنان نقشا تظل مدة اطول من النقش الذي يصيبه التلف بمرور الوقت .. والبيت الذي نبنيه من رمل يندثر بسرعة بينما الرمل يبقى رملا .. وهناك من يرى ان اللذة الحسية هي الشيء الحقيقي في الحياة ، رغم زوالها السريع على مائدة ابقى منها .. فالحقيقي في نظر اتباع مذهب اللذة هو ما استقطب افكارنا وشغل عقولنا واثار مشاعرنا اكثر ، وليس ما دام وثبت واستقر من الوعي .. لكن هنا علينا ان نتذكر ايضا اولا : ان لا سعادة ولا لذة في عالم المادة يمكن اعتبارها معطى اراديا تماما نقرره كما نشاء ومتى نشاء ، اذ ان اللذة الحسية هي معطى طبيعي تتحكم فيه قوانين فيزيقية وكيماوية ضدية موضوعية مستقلة ، عدا عن القوانين الاجتماعية العرفية والوضعية ، ونحن مشاركون في شعور اللذة ولسنا صانعيها ، ومن ذلك نحن مقيدون بالوجه الآخر للذة الذي هو الالم ،وبالوجه الآخر للجمال الذي هو القبح . ومن هنا جاءت الاهمية في بحث الحقيقي لتمييزه وفرزه من غير الحقيقي في حياتنا ، عندما نريد ربطه بسعادتنا ووجودنا .. النتيجة تكون لهذا الحساب : ان كل ما له ضد مرتبط به ارتباط العلة بالمعلول والسبب بالنتيجة، لا يعبر عن وجودنا في العمق من حيث نفورنا الطبيعي من الانتقال من ضد الى ضده .. وبما ان عالمنا المادي قائم في حركته ودورانه على التنقل من اضاد الى اضاد معاكسه في الحس والمعنى والمراد ، كان لا بد من التنبه الى وجود الثابت البريء فينا من كل ضدية ، والا لانسجمنا في حركة التنقل الضدية دون نفور ودون انزعاج ودون خوف . لكن الواقع ليس كذلك وكلنا نعاني الانتقال من البرد الى الحر ومن الحر الى البرد ومن اللذة الى الالم ومن الالم الى اللذة ومن الشدة الى الرخاء ومن الرخاء الى الشدة ومن الصحة الى المرض ومن المرض الى الصحة ومن الامن الى الخوف ومن الخوف الى الامن  ومن البؤس الى النعيم ومن النعيم الى البؤس الخ الخ  .. فالحقيقي ليس هو ما دام وثبت أكثر فقط ،بل ايضا ما خلا من التناقض والتضاد اكثر ، وهو الاكثر ثباتا ووحدة وتجانسا فينا من سواه ، وهو ما يجب الكشف عنه فينا بمعزل عن شتى اشكال الصراعات الضدية .  فهناك الحقيقي فينا  وليس له ضد في ذاته  يعكر وحدته ويزعجها ويؤثر فيها سلبا ؟ نعم وهو يقف وراء جميع الاضاد ويدركها بخلفيتة الخارجة عنها وعن طبيعتها جميعا ،كالقاعدة التي تتحرك عليها عقارب الساعة دون ان تكون مقيدة زمنيا بالمعيار التسلسلي للثوان والدقائق والساعات .. وبحكم الرغبة في الوحدة والتكامل والتجانس الذاتي مع الاغراض ،ولو بصورة غير مباشرة وغير واعية تماما،ما يزيد في اثبات ماهيتنا غير الضدية في جوهر لا ينقسم ، لا يمكن وصفه وتحديده ، وان حاولنا ذلك نكون حوّلناه صوريا وشكليا فقط دون ذاته ،الى عالم الاضاد والصفات ، فلا يُعرف بالتفسير والشرح والتحليل وانما فقط بالتجربة والاتصال المباشر اللاوسائطي .

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق