الهو...بلة بقلم الكاتبة امال ابو فارس
2012-08-31 18:09:10

الهوية، موضوع يهتم به الكثيرون يتناقلونه على الألسن، في الصحف والمجلات كالنشيد الوطني. يشغل بال الكثيرين منا، ويدخلنا في عالم من التخبطات فالبعض يشعر كأنه ريشة في مهب الريح، يحلق عاليا مع نسيم أفكار ومعتقدات نشأ وتربى عليها، ثم يعود ويسقط هاويا نحو الأرض بسبب هذا التطور والانفتاح على حضارات العالم الذي لا يحبذه البعض. ما هي الهوية إذن؟
عند تحديد الهوية تدخل عدة عناصر تميّز المجموعات عن بعضها البعض كالانتماء إلى الأرض، اللغة، الحضارة، التاريخ، الثقافة وغيرها.  "عناصر الهوية هي شيء متحرك ديناميكي يمكن أن يبرز أحدها أو بعضها في مرحلة معينة وبعضها الآخر في مرحلة أخرى" (ويكيبيديا، الموسوعة الحرة 2008 ).
تعرَّف هوية الفرد بتحديد اسمه وجنسيته، ثم رقم هويته وتاريخ ميلاده ومميزاته الشخصية. أما الهوية القومية او الوطنية فنستدل عليها من خلال مميزات متشابهة تتميز بها مجموعة ما، كالانتماء اللغوي، الثقافي، التاريخي، العمراني والسياسي وما الى ذلك مما يميز تلك المجموعة عن مجموعات اخرى غيرها.  
نحن نعيش في هذا العصر "العاصف" كما اسماه البروفيسور سليمان جبران. في القرن الواحد والعشرين عصر تفجر المعلومات، عصر الفضائيات التي لا تعد ولا تحصى. في هذا القرن أصبح العالم بمثابة قرية صغيرة، فبكبسة زر واحدة منك وأنت داخل منزلك،  تستطيع أن تقف على كل ما يدور في العالم من مستجدّات تكنولوجية، علمية، صناعية وأدبية ... كما تستطيع أن تتعرف على حضارات لشعوب لم تسمع عنها من قبل،  فتشعر بأنك تعيش مع جيران جدد، تراهم ولا تعرفهم، كما أنهم لا يعرفونك ولا يختلفون عنك كثيرا. وفي غضون هذه الأجواء العاصفة، وبعد هذا الانفتاح الكبير على حضارات العالم وتأثير الواحدة منها على الأخرى كيف يمكن تحديد الهويّة؟
 الوضع معقد جدا خاصة في دولة إسرائيل المعروفة بتعدديتها، ففي إسرائيل يعيش الشعب اليهودي ومنه تتفرع فئات عديدة:  (المواطن الأصلي ما قبل قيام الدولة، الروسي،  الإثيوبي،  القادم من أوروبا (الأشكنازي)،  والقادم من الدول العربية ( السفردي)، ثم المسيحيون ، الإسلام ، الموحدون الدروز، الشراكسة، البهائيون والطائفة الأحمدية. طوائف كثيرة وحضارات عديدة في بقعة صغيرة على خارطة الشرق الأوسط...
نحن نعيش في دولة عبرية، واللغة العبرية هي لغة الدولة التي نسمعها يوميا في وسائل الإعلام، في البيت والشارع وهي اللغة المتداولة في المؤسسات العامة وهذا الأمر لا يخفى على أحد... فإذا شاءت الأقدار وأدخلت كلمة عبرية إلى لغتك العربية ستتهم بان هناك بلبلة في هويتك. فإن صح أن نسمي تأثير الحضارات على بعضها "بلبلة"،  فالبلبلة إذن لا تقتصر على المعروفيين ولا على عرب إسرائيل. البلبلة عامة تفشت كالمرض المعدي لتصيب الجميع. فمذيعات لبنان على سبيل المثال ينطقن كلمتين بالعربية وثلاثا بالانجليزية في جملة واحدة، وفي الماضي اعتدن إدخال الكلمات الفرنسية، وكلنا يعرف السبب الذي يقف وراء ذلك. المهم أن الكثيرين  يتعاملون مع هذه الظاهرة كنوع من "الغنج والدلع" طالما أن الكلمات الدخيلة على اللغة ليست عبرية.
كم من كلمة انجليزية دخلت إلى اللغة العبرية واستوعبتها اللغة كما هي، بعد ذلك يجد لها مجمع اللغة العبرية كلمة بديلة ولكنه لا يجبر أحدا على استعمالها. إن في ذلك قمة الذكاء، فهي تقصر الطريق إلى فهم النصوص بحيث أن الطالب الجامعي الذي يقرأ مقالا في اللغة الانجليزية لا يضطر لاستعمال القاموس بكثرة لأنه يعرف الكثير من الكلمات من خلال لغته العبرية ( מילים לועזיות) على سبيل المثال: קוגניציה, מוטיבציה, אופוזיציה, רגרסיה, קולקטיבי סטית, קורפוס, סטאטוס, נרטיב, אמוציונאלי, אורתוגראפי... كلمات لا تعد ولا تحصى مشابهة للكلمة الانجليزية الأصلية ...
 اللغة لم تعد الركيزة الأولى التي تحدد هوية الشخص في منطقتنا. فإذا دخلت إلى أحد المستشفيات تسمع اللغة الروسية في كل مكان لان معظم الأطباء قادمون جدد من روسيا. كم من كلمة عربية دخلت إلى العبرية وأصبحت دارجة على الألسن يستعملونها في الشارع الإسرائيلي دون حرج مثل: "أحلى، حفلة، أشكَرَه، على كيفك، مبسوط ... " لم نسمع أحدا يدعو إلى نبذ هذه الكلمات لأنها عربية ولم يشعر المتحدث بها بالبلبلة كما نشعر نحن إذا سمعنا كلمة عبرية في خلال الحديث.
إذا اعتبرنا اللغة كأحد مكونات الهوية الأساسية ماذا يمكننا أن نعتبر اليهودي القادم من أمريكا والذي يتحدث اللغة الانجليزية في بيته؟ لو سألته عن هويته سيقول لك: " أنا يهودي صهيوني " معتبرا الدين هو المركب الأول في هويته وليس اللغة، كما أن المواطن العربي الذي يسكن في أمريكا أو في أوروبا ويتحدث بلغة غير عربية، هل نتوقف عن اعتباره عربيا لأنه لا يتحدث بالعربية؟!
  الطالب الشركسي الذي يعيش في كفر كما لا يتعلم لغته الشركسية في المدرسة بتاتا، وإنما يتعلم اللغة العبرية من الصف الأول باعتبار لغته الشركسية لغة صعبة جدا ومعقّدة،  ففيها أربعة وستون حرفا. عندما زرنا القرية في المهرجان التراثي للشراكسة، واستمعنا للشرح المفصل عنهم، لم نشعر أن تعلمهم للعبرية من الصف الأول قد أساء إلى هويتهم وقوميتهم الشركسية.  
لو سافرت إلى سويسرا رغم صغرها تجد الناس يتحدثون في شرقها اللغة الألمانية وفي غربها اللغة الفرنسية وفي جنوبها اللغة الايطالية وفي وسطها لغة سويسرية تسمى( رومنش)لا يرغب السويسريون كثيرا في تعلمها. فالحكومة تدفع نقودا لمن يتعلمها حتى لا تنقرض هذه اللغة.  بالرغم من ذلك لم تتضعضع هويتهم التي تتجسد في استقامتهم التي يفوقون فيها على كل الشعوب ، فأنت تشتري فنجان القهوة من المطعم المنتصب في أعلى قمة التيتلس والذي يرتفع أكثر من 3000 م فوق سطح البحر بنفس السعر الذي تشتريه من أي مطعم آخر في القرية او المدينة. إذا أردت أن تستوطن في سويسرا عليك أن تعيش هناك اثنتي عشر عاما دون أن تسجل لك مخالفة قانونية واحدة - حتى ولو كانت اجتياز إشارة المرور الحمراء - .إذن اللغة هناك لا تمت للهوية بصلة، إنما تقاس هويتهم القومية بالقيم التي يتربون عليها منذ الصغر.
 طالما نحن نعيش جنبا إلى جنب سنؤثر في حضارة الغير كما سيؤثرون على حضارتنا وهذا التاثير يشمل اللغة أيضا إن شئنا ذلك أو لم نشأ. ولا يمكن لأحد كبت جماح هذا التأثير لأنه فعل طبيعي لحضارات الشعوب، إذ لا توجد في العالم كله حضارة صافية محضة،  وإنما هي مزيج بين عدة حضارات. فالحضارة كالكائن الحي تولد، تنمو، تتطور لتصل إلى ريعان شبابها، وتتطور معها اللغة. ثم تبدأ الحضارة طريقها نحو الزوال فتضمحل وتخبو لتحل محلها حضارة أخرى تبدأ حياتها على أنقاض الحضارة التي اندثرت، متأثرة بكل ما خلفته لها من إرث حضاري قبل زوالها. وعندئذ تأخذ هذه الحضارة الجديدة بالبحث والتفتيش عن لغة قومية جديدة تلائم مواقفها السياسية وتراعي حاجاتها الاجتماعية. على سبيل المثال في الماضي كانت اللغة العربية هي المسيطرة في منطقة "فلسطين"، وبعد قيام دولة اسرائيل اصبحت اللغة العبرية هي المسيطرة، بالرغم من ان دولة اسرائيل حددت قانونيا وجود لغتين رسميتين في مؤسساتها الحكومية (العربية والعبرية) لان اللغة العبرية لغة سلسة وسهلة للاكتساب.
  أين التراث العربي الذي نشانا عليه قبل قيام دولة إسرائيل؟ هل ما زال على حاله؟ لقد تغير كل شيء بدءا باللباس، العادات، التقاليد، طريقة المعيشة، طريقة التفكير، تصميم المنازل، الأدب ، الفن ألخ ...إن أطباق "التبولة  والحمص   و"الفلافل" لم تعد فاكهة المائدة عند الشعب العربي فحسب، وإنما هي أكلة الشارع الإسرائيلي. كما أن المأكولات الصينية، التايلندية ، السبجيتي والبيتسا غزت موائدنا، فنأكلها بشراهة كما لو كانت من طعام الأجداد. هل نسمي كل هذا بلبلة؟
 الغيورون على الثقافة العربية يسمحون لك بتناول هذه الأطعمة، وان تصمم منزلك على الطريقة الأوروبية وان تلبس ملابس من تصميم "رنوار، كروكر وفرزا تشي"، وتسمح لك أن تستمع إلى أغاني "سلنديون وماريا كيري"، وأن تأكل بالشوكة والسكين، لكن احذر! إياك أن تقترب من اللغة العربية فإذا أدخلت عليها كلمات عبرية ستغضب عليك آلهة أوديبوس وتتهمك بأنك السبب في هذا الوباء الذي يسمى بلبلة.
لم اقصد بكلامي هذا تشجيع احد على تغيير لغته، أو تغيير قوميته أو هويته؛ إنما اردت بذلك ان اوتي بحقائق علمية تثبت ان اللغة لم تعد المركب الاساسي في تكوين الهوية، كما اردت ان أثبت أيضا أن الهوية شيء غير ثابت، إنما هو أمر دينامي متحرك ومتغير. قد تحدد هويتك في فترة ما وفقا لمعايير معينة، ثم تعود بعد فترة اخرى لتجد أنك تنازلت عن بعض منها واتبعت معايير جديدة تلائم حياة العصر والزمن الذي تعيشه. ولو رأينا عكس ذلك لكان على كل منا الرجوع الى الف سنة على الاقل الى الوراء، والعيش في خيم او في منازل من طين، ولبس الثياب المصنوعة من الجلود أو من صوف الخروف وما الى ذلك مما يميز حضارة وحياة تلك الحقبة.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق