يا ابنةَ الرّياض ونجيّةَ الجداول .!!بقلم يوسف ناصر
2012-07-01 23:51:46

لربّما سئمتِ أمسِ حديثي , وأنا أسامرك أيّتها اليمامة الوفيّة , إذ رأيتُ النّعاس ألقاك بيديه في لجّة النّوم العميق , فغرقتِ هناك في الأحلام الصّاخبة , إلى أن أقبل الصباح وأخرجك على زورق تائه من زوارقه , كان يمخر صدفةً في ذلك العباب , وانتشلك مبلّلةً برحيق التباشير وقطرات الأنوار .!
           .. لا ، قالت اليمامة : أنا ما سئمتُ حديثك كلّ أيّام إقامتي في رحابك , ويا طالما وجدتّ عزاء لي في تغريدك ، وشجو العندليب الذي فيك .! بل إنّ ما وددت أن أقوله لك , ولا تغضبْ , أنّ عُشّي هذا الذي بنيتُه بالقشّ وأعواد الهشيم اليابس , خيرٌ لسذاجته من قصرك الّذي بنيتَه بأجمل الحجر والرّخام .! ليتك تعلم أنّ قناعتي بما عندي , هي المفتاح إلى سعادتي , وأنّ في نقصان عقلي زيادةً على عقولكم معشرَ البشر .! وأنّ جهلي نعمة عندي , بقدر ما هي معرفتك مصيبة لديك لا تبرحك .! مسكين أنت ! إنّ إناءك الصّغير أصبح لا يتّسع لهذا العالم الذي يجلس فيك بهمومه الكثيرة , وما يمليه عليك دائمًا من عدْو مع النّاس وراء مغرياته .! كلّ مولود منكم , ومن ساعة أن يأتي إلى هذا العالم , يصعد إلى سفينتكم , أعني حياتكم , دون أن يدري ما في السّفينة , ودون أن يعلم أنّ السفينة ذاهبة لتلقي به في بحر العذاب الصّاخب , لتغرقوا في العداوات والمنافسات الدّائمة ..! والذي يؤلمني أنّني لم أرَ واحدًا بين أبناء البشر منذ نشأة الخليقة, من طلب النزول منها عند اقرب الشواطئ ..!!                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                           
.. أحيا حرّة , كما تراني , لا تحكمني مثلكم تقاليد تناسلت في الأرض , وعادات استحالت ديانات مصنوعة بأيدي البشر ..! نما الدين الواحد عندكم شجرةً عظيمةً حتّى نأَتْ فروعها عن أصولها ، وتبرّأت غصونها من جذورها ,  وأصبح البشر لا يعبدون إلاّ البشر , والنّاس لا يقدّسون إلاّ شرائع النّاس , ويا حسرتا ! لم يبقَ لله نصيب من عباداتكم , وإنْ كثرت الكنائس والمساجد وبيوت الله الكثيرة في العالم ..!
 .. اُنظرْ ترَ الكون الفسيح والفضاء الرحب ملكي كلّه .! لا حدود ممنوعة , ولا حواجز مسدودة , ولا أقاتل من أجل حقّ مغتصب , ولا أسعى لسلب أو لنهب يومًا ..! لا أنازع , ولا أخاصم أحدًا , إنّ سلامي يمنحني سعادتي , وقناعتي تجلب لي حرّيّتي  .!  تشرب الجداول من نبض أوتاري , وتتأوّد الغصون لبلاغة أناشيدي .! أمّا أنتم فقد بلوتم أنفسكم معشرَ البشر بنزعة الاِسْتملاك علّة شقائكم , وعذاباتكم , وأحزانكم , وأمراضكم ! فنزع النّزاع الدّائم بينكم كلّ سعادة فيكم , وبذر كلّ الرذائل والشّرور في قلوبكم , فأصبح العالم غابةً خرجت من بين أضلعكم , وجعلكم تستعينون بآثامكم من أجل الغلبة في حربكم مع أخوة لكم من ظلم , وكذب , ورياء ,وغدر , وطمع , وحقد , وحسد , وعنصريّة , وفي ذلك كان للقويّ بشرّه بينكم , النّصرُ على الضّعيف بخيره فيكم , وللمتوحّش بينكم الحظّ الأعظم على المتألّه عندكم !! فضاعت حرّيّتكم ولن تجدوها ! وغاب سلامكم ولن تعثروا عليه يومًا ! وإنّ أطبّاءكم من أنبياء , وأدباء , وشعراء , وفلاسفة ما انفكوا منذ نشأة العالم , ينصحونكم , لكنْ لا فائدة للدّواء فيكم ، ولقد جاءكم قبل ألفي عام يسوع النّاصريّ يقول لكم : "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاًََ فَاذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاَكَكَ وأَعْط ِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي "  ثمّ مضى , ولم تبالوا بقوله , فشقيتم إلى أبد الأبد !  قوموا اشربوا البحر , ولو كان ترياقًا , فلن يُطفئ عطشكم إلى الرّاحة .! وتجرّعوا الأنهار , ولو كانت عسلاً , فلن تزيل مرارة شقائكم  .! واملكوا الجبال , ولو كانت ذهبًا , فلن تجلب الغنى إلى نفوسكم .! واسكنوا القصور الباذخة , ولو كانت فردوسًا , فلن تجلب السّلام إلى أرواحكم .! والبسوا تيجانكم , ولو كانت مرصّعة بالكواكب والنّجوم , فلن تأتي بالأمن إلى قلوبكم .! لأنكم تعْدُون وراء المجد الأرضي الباطل , والملك الدنيويّ الزائل الذي يحمل إليكم النّدم القاتل على ما فعلت أيديكم ..! أنا طائر طليق , أمّا أنت فطائر صنع القفص لنفسه , ولن يخرج منه إلا حين يغلب هذا العالم , ولا يتحقق لك ذلك إلاّ حين تهجر العالم بالسّذاجة والقناعة والوداعة والبراءة ! حينئذ تغدو أسعد الناس بفضل السّلام السّاكن في نفسك .! صدّقني أنني بفرح اخترت منزلك الجميل , وما كنتُ لأبني عُشّي هذا فوق شرفتك , لو لم أجد فيك يمامة مثلي تحلق في أثيرها الرّحب , بعد أن خرجتَ من طبائعك , وغرائزك , ومنعتَ العالم أن يدخل إليك , رغم ندائه خلف النّوافذ والأبواب ..!
         .. قالت اليمامة قولها هذا ثمّ طارت من عشّها , فتبعتها أحلّق خلفها بأجنحتي قائلاً : صدقتِ يا شاعرةَ الأثير ! إنّ حظّك باليمامة التي فيك , خيرٌ من حظّي بالبَشَر الّذي فيّ .! لا تتعجّبي أنّني أقضي حياتي كما ترين , حربًا دائمة بيني وبين أعدائي , أحبِّ أحبّتي الّذين يسكنون فيّ : نفسي , وعقلي , والعالم الذي يطلب خلف الأبواب أن يأخذني معه .! هأنذا كما ترين , ثورة دائمة أنظّف فيها منزلي الكائن تحت صدري ممّا ألقت فيه العصور من شرور وطبائع وغرائز , عسى أن أعود ناقصًا مثلك , مِن حيث إنّ نقصان العالم فيّ , هو زيادة في الفضائل عندي ..!  أنا , وفي آن واحد أضرب أعماقي كي لا تخرج إلى العالم , وأضرب العالم كي لا يدخل إلى أعماقي .! آهٍ , لقد مللتُ حربي , وسئمت معاركي , وأرهقني أن أقضي حياتي فوق صهوة جوادي , مثلما ضجرتُ أيضًا من خرير الدّماء , ومشاهدة الضّحايا التي تسقط كلّ يوم منّي بحدّ سيفي .! فما أشقاني أن أكون أنا القاتل , وأنا المقتول في آن واحد في هذا العالم ..!
         يا شاعرة الأثير , اسمعي آخر حديثي إلى أن نلتقي هنا على سفينة الأثير مرّة أخرى : إنّ العقول , والأرواح , والعواطف , والأخلاق , والأقلام التي ليست لها أجنحة تحلّق بأصحابها معك في هذا الأثير الطّاهر , يبقى أصحابها تعساء يحيَون بين الحشرات والزّواحف في أعماق الأودية وجوف التّراب !! 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق